بنفع مادي. فإذا لاحظناها فلن تكشف عيننا شخصية الشيء أي هذا الاتساق الخاص من الإشكال والألوان، هذا الاتساق الأصيل كل الأصالة، وإنما تكشف واحدة أو اثنتين من الملامح التي تيسر لنا معرفة الشيء عمليا.
جملة القول أننا لا نرى الأشياء نفسها، وإنما تقتصر في أكثر الأحيانعلى قراءة بطاقات ملصقة عليها. وقد قوبت هذه النزعة، وهي وليدة الحاجة، تحت تأثير اللغة. . . فاللفظ الذي لا يسجل من الشيء إلا وظيفته العامة الشائعة ومظهره الغليظ المبتذل، يندس بين هذا الشيء وبيننا فيقنع شكله عن عيوننا، إن لم يكن ذلك الشكل قد احتجب من قبل وراء الحاجات التي خلقت اللفظ نفسه).
ويخلص برجسون من هذا إلى أن الفنان نفس منقطعة عن الحياة، لا هذا الانقطاع المقصود المدبر المعتمد، وإنما هو انقطاع طبيعي راجع إلى خليقة الحس، يغمر الفنان في حياة روحية خالصة كالأحلام والرؤى، وتظهر آثاره مباشرة في أسلوب البصر والسمع والتفكير بما يزيح الرموز والكنايات والعموميات ذات النفع المادي ويوقفنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة. . .
ولألفونس دوديه صفحات كثيرة تصل إلى هذه الطبقة، حسبنا هنا أن نقتبس فقرة قصيرة من حديث الراعي البروفنسى الذي بات يروى أساطير (النجوم) لابنة سادته. أنه يشعر شعوراً ساحراً فوق الجبل، فهو يعرف ما الذي يجرى فيها أحسن مما يعرفه أهل السهل). وهو مع ذلك لا يتكلم إلا كلاما ساذجا (لو أتيح لك تقضى الليل ساهراً؛ لعرفت أن في الساعة التي نرقد فيها، يستيقظ عالم سحري يعمر العزلة والسكون. هناك تغنى الينابيع غناء أصفى وأجهر، وتوقد الغدران جذوات صغاراً، وتذهب جميع الأرواح الهائمة في الجبل وتجيء حسرة طليقة؛ وإذا أنت تحس في الهواء خفيفاً وأصواتاً خفيضة لا تكاد تدركها الأذن، إن النهار دنيا الأحياء، أما الليل فحياة الأشياء).
وقد عاش دوديه مع الأشياء الصغيرة، بل عاش فيها وعاشت فيه، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات. هو ذا يصف أياما قضاها على شاطئ كورسيكا فيقول: (كنت إذا لم تعصف المسترال أو ريح الشمال آتي فأستلقي بين صخرتين قائمتين في مستوى سطح الماء، وسط الحمائم والشحارير والسنونو، وأكاد أقيم النهار كله على هذه الحال من الشرود والاعتلال