المغمورة مراً سريعاً، وتنساها وأنت سائر. . ولكنك في آخر النهار تشعر بدبيب كل ما في نفسك من التأثر والرثاء والمضض لأنك دون أن تدري، قد علقت، عند منعرج طريق أو أُسكُفّة باب بهذا الخيط غير المنظور الذي يربط تلك البلايا معاً، ويرجها جميعاً إذا اهتز هزة واحدة).
وكان ألفونس دوديه ممن يشكون قصر البصر. ولعل لهذه العاهة أثراً في عنايته بكل شئ صغير. فإن الرجل المرهف الحس الذي لا تستطيع عينه أن تلم من بعيد بجميع خطوط المنظورات، يحرص دائماً على أن يقترب من الأشياء، ويحدق في كل شئ من كل ناحية، وينتهي به الأمر إلى أن يسجل للمرئيات صوراً أدق وأصدق وأروع من الصور التي نلتقطها نحن بعيوننا السليمة. أضف إلى ذلك ما رأينا من اندماجه في زحمة الشارع واعتزاله في برج الشاعر (راجع عدد ٨٤٦ من (الرسالة). ولقد كان أديبنا الساحر ينشد سيكون الريف أو الشاطئ أو الصحراء كلما دار رأسه في باريس، وكان يعي نعمة العزلة التي فيها تصفو ملكة الناظر وتصفو أحلام الشاعر وتصفوا عبارات الكاتب.
يقول برجسون، وهو خير من فطن إلى معنى الفن وغايته وعلاقته بالحياة: (لقد انسدل بين الطبيعة وبيننا، بل بيننا وبين إدراكنا، حجاب صفيق عند عامة الناس، رقيق ويكاد أن يكون شفافاً عند الفنان والشاعر. فالناس لابد أن يعيشوا، وأن يكسبوا قوتهم، والحياة تقتضينا أن نقدر الأشياء تقديرا مبنياً على مدى صلتها بحاجاتنا. فنحن لا نقبل من تأثير الأشياء علينا إلا التأثير النافع لنا، ثم نلبي هذا التأثير بأعمال هيرد فعل خاص، أما التأثيرات الأخرى للأشياء فإننا لانفعل، ولابد أنها تظلم وتعتم ولا تبلغنا إلا غامضة مبهمة مشوشة.
أنا أنظر وأظن أنني أرى، وأصغى وأظن أنني أسمع، وأختبر نفسي وأظن أنني أقرأ ما سطر في أعماق قلبى، على حين أن ماراه وما أسمعه من العالم الخارجي ليس إلا تستخلصه حواسي لإرشاد سلوكى، وعلى حين أن أعرفه عن نفسي ليس إلا ما يطفو على سطحها وما يشترك بنصب في حياتي العملية. . . لقد صنفت الأشياء تصنيفاً غايته مقدار الفائدة الذيأستطيع أن أصيبه منها. وهذا التصنيف هو الذي أراه أكثر مما أرى ألوان الأشياء وأشكالها. . إن شخصية الأشياء والكائنات تغيب عنا ما دام لا يعود علينا تمييزها