للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معرفتكما عندي.

فقال الجميل وهو يبتسم ابتسامته الرقيقة المعبرة: نعم، إني أعرفك وإن لم أرك. عرفتك مما قرأت لك وسمعت عنك فوجدت بيني وبينك مشابه في استعداد الفطرة وأسلوب العيش هي التي حببتك إلي وجذبتني إليك. فقد بدأت حياتي معلما للأدب كما بدأت. ثم حررت جريدة (البشير) في بيروت دينية يشوبها الأدب، وأصدرت (الزهور) في القاهرة أدبية يهذبها الدين، وهاتان النزعتان أجدهما مجتمعتين في (الرسالة). ثم كرهت التحيز لأي حزب، والتعصب لأي مذهب، والإضافة إلى أي شخص؛ فأنا أنشد الخير في كل عقيدة، وأؤيد الحق في كل هيئة، وأحب الجمال في كل إنسان. ولولا أن (الأهرام) أمانة في عنقي لقطعت ما بيني وبين السياسة. ويظهر لي أنك تنهج في حياتك هذا المنهج، وتسلك في عملك هذا المسلك. . .

ثم تشاجن الحديث وأخذ ثلاثتنا بأطرافه، فعلمت في هذا المجلس وفي المجالس التي أعقبته، أن الجميل - فضلا عن وجوه الشبه التي رآها بينه وبيني - أزهري مثلي، يعرف قواعد اللغة كما يعرفها الأزهر، ويفهم تاريخ الأدب كما تفهمه دار العلوم.

ولست أعني بأزهرية الجميل ذلك التأثير القوي الذي يؤثره الأزهر في كل كاتب وفي كل شاعر من طريق مباشر أو غير مباشر، إنما أعني بأزهريته ما أعنيه بأزهرية فقيدنا العزيز الآخر علي الجارم، وهو أن كلا الرجلين كان ربيب مدرسة اشتقت من مصدر الأزهر وتفرعت من أصله. والأمر في أزهرية الجارم أبين من أن يبين، ولكنه في أزهرية الجميل يحتاج إلى بسط قليل:

كان الأزهر في أوائل النصف الأخير من القرن الماضي لا يزال وحده يرسل أشعة الثقافة في العالم الإسلامي كله. ولكنه كان في أثناء الغفوة العامة يحفظ علوم الدين ولا يجتهد، ويدرس فنون اللغة ولا يطبق. وكانت معاهد العلم في المغرب والشام والعراق تتعلم في كتبه وتجري على منهاجه، حتى وقع في سورية ومصر أمران خطيران كان لهما الأثر البالغ في تطور المجتمع وتقدم التعليم ونهوض الأدب: حدوث الفتنة الدامية في لبنان سنة ١٨٦٠، وولاية إسماعيل على مصر بعدها بثلاث سنين. كان من أثر تلك المذبحة الأليمة أن لجأ اللبنانيون من قراهم إلى بيروت فتجمعت فيها الحركة، وأن وضع للبنان نظامه

<<  <  ج:
ص:  >  >>