للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الفن وكلما لقيت رجلا من رجاله، سواء أكانت اللقيا في عالم الأحياء أم في عالم الشعور والسطور. . . من هنا أود أن أقول للأديب الفاضل إنني ما وسمت الشعر العربي القديم بتلك السمات، إلا بعد أن صاحبتهُ مصاحبة كانت في حساب الزمن خمسة عشر عاماً، وكانت في حساب الدراسة النقدية خمس عشرة مرحلة، في كل مرحلة منها ما شاء من إعادة النظر، وما شاء من تقليب الرأي، وما شاء من مراجعة النفس، وما شاء من استشارة الذوق والحس والوجدان!

أنا يا صديقي لا أنكر أن في الشعر العربي القديم لوامع رائعة من الأداء النفسي، ولكنها كما قلت لوامع تطغى عليها تيارات الأداء اللفظي، ذلك الأداء الذي يعني بمادية التعبير أكثر مما يعني بظلاله النفسية. . . إن الأداء النفسي موجود في شعر المتنبي كما هو موجود في شعر ابن الرومي والبحتري وأبي تمام وما شئت من كبار الشعراء، ولكن أي وجود؟ أنه وجود لا يملأ سمع المتذوق لهذا اللون من الأداء، ولا يحيط بمنطقة الشعور تلك الإحاطة الكاملة التي نلتمسها في الإثارة الوجدانية. . . عندهم إثارة، نعم. ولكنها الإثارة التي تنبثق من ثنايا الذهن لا من شغاف القلب، وتنطلق من وراء اللسان لا من حنايا العاطفة؛ وتلك هي الإثارة العقلية التي دفعت بهم إلى خارج (الحدود النفسية) كما قلت، وبعدت بهم عن أن يكونوا قمماً من قمم الأداء النفسي الذي أشرت إليه!

لقد كان الشاعر القديم لا يخلو إلى نفسه إلا في القليل النادر ولقد كان مشغولا عنها بأغراض الحياة ومطالب العيش ومظاهر الغلبة على الأقران والتشوف إلى الوقوف بباب السلطان، ولذلك ضرب بجناحيه في كل أفق وبقى أفق واحد عزَّ عليه أن يحلق فيه، وهو أفق الخلوة إلى النفس والتحدث إليها والتعبير عما يجيش بداخلها من شتى الانفعالات والخلجات. . . ولو خلص الشعراء القدامى لأنفسهم وخلصت لهم، وتفرغوا للتأملات الذاتية في شيء من الاستجابة الصادقة لدعاء الشعور الصادق، لبدوا عمالقة في ميدان لم يطرقوه مرة إلا ارتدوا عنه مرات، ولاغترفوا من نبغ لم يحوموا حوله لحظة إلا وضلوا عن طريقه لحظات، جرياً وراء السراب؛ سراب الصنعة اللفظية والذاتية البيانية!

ومع ذلك يذهب الأديب الفاضل إلى أن المتنبي وابن الرومي ينفذان من نطاق النقد الذي أقمته حول بناء الشعر العربي القديم، فهل يتفضل بتقديم قصيدة لهذا وأخرى لذاك

<<  <  ج:
ص:  >  >>