للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نفسه!).

ويمر ذلك العهد. . . عن العاطفة الصارمة، والحب الجارف، والاندفاع وراء القلب المرهف. . . عهد كان أخوف ما يخافه ويضجر من شقائه هو العقل. . . العقل الذي لا يستسيغ تصرفات قلبه الجامح، ولا يطمئن إلى عاطفته الحارة. . . فكان إبراهيم الكاتب يقول:

(أوه. . . العقل! العقل!. ليت المقادير حرمتنا هذه النعمة التي لم نغن بها) ثم ينقضي عهد العواصف واليأس والقنوط.

وتنقلب صفحة مليئة بالأشجان. . . لتطلع علينا صفحة ثانية تقص علينا قصة حياة أكثر اطمئناناً، ورضى بنصيبها، وفهماً لدنياها. . . قصة تزول عنها حمى العاطفة ونزواتها وطيشها، وتنقلب إلى حكمة ودراية واتزان.

تلك هي حياة إبراهيم الثاني. . أو إذا أردنا الدقة. . . حياة إبراهيم الكاتب بعد أن تغير تغيراً كبيراً، أو كما عبر المازني نفسه (ولو أمكن أن يلتقي الإبراهيمان - إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني - لاحتاجا إلى من يقوم بينهما بواجب التعريف)

فإبراهيم الثاني اليوم في العقد الخامس من عمره. . . أورثته حياته المرهقة، وإحساسه العميق، وذكرياته الطويلة، وسواساً قوياً يخيفه، ويأخذ بمجامع قلبه، وقلقاً صارماً يستحوذ على فكره. . . (فقد كان أخوف ما يخافه أن يكون قد شيخ، أو أشفى على الشيخوخة) فهذا الهاجس يعذبه دائماً، ويحيل حياته إلى عذاب نفسي أليم. . . وينغص عليه عيشه. . . وكأنه يلمح على عتبة الحياة شبحاً مدبراً هو شبح شبابه حاملاً معه كل حلم من أحلامه، وكل زهرة من زهرات ربيعه.

ويزداد هذا الوسواس بعد موت أمه، وقام في خلده أنه شب عن الطوق جداً جداً! ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية. . . فهو يدلف إلى الشيخوخة بقوة لا يستطيع لها دفعاً، ويخلص من نعيم الشباب وهو معتلج القلب بالعواطف.

ولكن. . . مهلا ما الشباب. . . أليس هو إيحاء وشعور يستوليان على النفس. . . وهل خلى إبراهيم من إيحاء الشباب والشعورية؟!

ولكن اليأس المضني يدركه حين تصور له أوهامه، وتلف أعصابه أنه موشك على الموت،

<<  <  ج:
ص:  >  >>