فأنت ترى الغزل مستمدا من حاله، ولو أنك جعلت ما يهواه وطنه، وأدرت عليه الحديث لم تبعد.
لم يطل البارودي بعدئذ في الحديث عن نفسه كما فعل أبو فراس، بل اكتفى ببيت واحد يحمل خيبة الآمال، إذ قال:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر
وكان المجال أمامه فسيحا لتعداد مواقفه في الحرب والسياسة، ولكن يبدو أن يأسه ساعتئذ قد تغلب عليه، فصرفه عن الحديث ماض لا سبيل إلى استئنافه، على عكس أبي فراس، القوي الأمل في أن يعود - كما كان - البطل المفدى. وكان المجال فسيحاً كذلك أمام البارودي للحديث عن نفسه، والدفاع عن نفسه، كما تحدث أبو فراس عن أسره، ولكنه لم يفعل، ولعله اكتفى في ذلك بما تحدث به في قصائد أخرى كثيرة.
أما الذي أطال الحديث فيه حتى استغرق معظم قصيدته على عكس أبي فراس، فحديثه عن آبائه. وقد ذكروا أنه ينحدر من المماليك الشركية، فاتخذ من ذكراهم وسيلة يشبع بها عاطفته في الفخر، ويسلي نفسه بمصايرهم، وسجل لهؤلاء الأسلاف شجاعتهم وكرمهم، وهنا يستعير خيالاً بدوياً إذ يقول:
لهم عمد مرفوعة، ومعاقل ... وألوية حمرن وأفنية خضر
ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر
تمد يداً نحو السماء خضيبة ... تصافحها الشعرى ويلثمها الغفر
وختم قصيدته ختاماً يائساً حزيناً، رثى فيه قومه وقد مضوا، وسوف يمضي على أثرهم:
لعمرك ما حي وإن طال سيره ... يعد طليقاً والمنون له أسر
وما هذه الأيام إلا منازل ... يحل بها سفرن ويتركها سفر
فلا تحسين المرء فيها بخالد ... ولكنه يسعى، وغايته العمر
أما أبو فراس فقد ختم قصيدته مالئاً شدقيه من الفخر بقومه الذين كانوا يومئذ قابضين على الملك والسلطان.
هذا، وقد ظفرت قصيدة أبي فراس بشهرة في العالم العربي الحديث، كما رأينا، وغنت أم كلثوم بعض غزلها، وسارت على الألسنة بعض أبياتها كقوله: