كان الأمل يملأ شعره في هذه القصيدة، ولهذا رأيناه يستقبل الأسر بصدر رحب، لإيمانه بأن قومه لا بد ذاكروه وفادوه. فليس عندهم من يملأ مكانه إذا غاب:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ويختم أبو فراس قصيدته مفتخراً بقومه الذين يحتلون في قومهم مركز الصدارة، ولا يقبلون دونه مكاناً ن ففي سبيله تهون نفوسهم، ويشتد شعور أبي فراس بهم وبعزتهم فيقول:
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر
أما البارودي فقد كان غزله كذلك مستمداً من موقفه، فإذا كان أبو فراس مؤملا يخفي آلامه، فإن البارودي - وقد جفت آماله - لا يجد بداً من أن يتحدث ببعض ما يشعر به من أسى وحزن، وإن كان يخفي في قلبه من اللوعة أكثر مما يبين، فتلون عزله بهذا اللون، فرأيناه يبوح بالحب لا ينهاه عن ذلك زجر ولا عتاب، وهو يرى الحب، وربما كان يرمز به إلى مصيره - أمراً مقدورا، ليس لامرئ فيه من نهي ولا أمر، وإنه ليقاسي من هذا الحب أعنف ما يقاسيه إنسان، ومع هذا لا يبدي كل ما يحمله صدره من الوجد، ولا يترك دموعه تهمي، لا صبراً في انتظار تحقيق أمل، ولكن حياء وكبراً، واستمع إليه يقول:
طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة، مما يضن بها التجر
سريع هوى يلوي بي الشوق كلما ... تلألأ برق أو سرت ديم غزر
إذا مال ميزان النهار رأيتني ... على حسرات، لا يقاومها صبر
يقول أناس: إنه السحر ضلة ... وما هي إلا نظرة دونها السحر
فكيف يعيب الناس أمري، وليس لي ... ولا لامرئ في الحب نهي ولا أمر
ولو كان مما يستطاع دفاعه ... لألوت به البيض المباتير والسمر
ولكنه الحب الذي لو تعلقت ... شرارته بالجمر لاحترق الجمر
على أنني كاتمت صدري حرقة ... من الوجد لا يقوى على حملها صدر
وكفكفت دمعا لو أسلت شؤونه ... على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر
حياء وكبراً أن يقال: ترجحت ... به صبوة أو فل من غربه الهجر