وكيف إنها تجاهلته حيناً آخر:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت، كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك، قالت أيهم؟ فهمو كثر
فقلت لها: لو شئت لم تتعّني ... ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
فقالت: لقد أزرى بك الدَّهر بعدنا ... فقلت: معاذ الله، بل أنت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك ... إلى القلب، لكن الهوى للبلا جسر
وينتقل أبو فراس بعدئذ انتقالاً طبيعياً إلى الفخر بنفسه إذ يقول:
فلا تنكريني يا ابنة العم، إنه ... ليعرف من أنكرته البدو والحضر
ولا تنكريني، إنني غير منكر ... إذا زلت الأقدام واستنزل النصر
وهنا وجد المجال فسيحاً للحديث عن خصاله الحربية، ومزاياه؛ فتحدث عن أنه ميمون الطالع، قائد مظفر، لا يخشى المعارك المخوفة، بل يخوض غمارها، حتى ترتوي البيض، وتشبع الذئاب والنسور، لا يغتال عدوه، ولا يفجؤه، بل يرسل إليه النذر تخيفه وتحذره، ثم يصور لك إقدامه في صورة بارعة إذ يقول:
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر
فهذا حصن منيع قد وثق بنفسه، ولكن لم يلبث الفجر أن قاد إليه الهلاك عندما صعد إليه أبو فراس يحمل له الردى. وتحدث الشاعر عن احترامه للمرأة، حتى تستطيع شجاعته إلا أن تلقي بسلاحها أمامها، فيعفو عن قومها ويرد إليهم أسلابهم. ثم هو رجل لا يطغيه الغنى، ولا يثنيه الفقر عن الكرم، وهو في كل هذا الحديث قوي يشيع في أبياته روح الأمل.
وانتقل بعدئذ إلى حديث أسره، فلم ينسبه إلى ضعف بدر منه، بل قضاء غلاب، لا يستطيع امرؤ أن يفلت منه:
أسرت، وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر، ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: (الفرار أو الردى) ... فقلت: هما أمران، أحلاهما مر
ولكنني أمضي لمالا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولعل أبا فراس صغّر الأصحاب هنا تقليلاً لعددهم، وتحقيرا لشأنهم.