يفعل وهو (رجل فقير نشأ في بيت متواضع وصنع الجرار مع أبيه، فإذا نضجت الجرار حملها أبو العتاهية، أو حملها أكَّار معه على ظهره، وسار بين الحواري والأزقة في مدينة الكوفة يبيع جراره ويساهم في ثمنها، فإذا ألهبت الشمس قفاه ومس حر التراب أخمص قدميه وبلغ منه التعب مبلغه - أجاءه ما به إلى ضل حائط، فيحط حمله، ويجلس مسنداً إلى الحائط ظهره، برماً بالدنيا متسخطاً عليها فيلتف حوله الصبيان يعبثون به ويعبث بهم ويتبسط معهم في الحديث. . .).
فهو لم يكن ذا علم وثقافة، ولم يكن ذا عقل وحصافة، فعاش حتى آخر أيامه فجاً لم تستكمل أداته ولا بلغ ذروة الشعر ولا جاري شعراء عصره - عصر الإبداع والازدهار - فتخلف عن الركب وانبهرت أنفاسه ولكنه أتخذ إلى الشهرة سبيلاً هيناً سهلاً، فانحط على كبير من بني معن يقذع له في القول ويفحش في الهجاء، في غير ذنب ولا جريرة ولكن الشاعر - في رأيي - كان يحس في قرارة نفسه ضعة الشأن وحقارة المنبت وصعوبة المرتقى فتأرث قلبه غيظاً وحقداً، فوجد في الهجاء متنفساً يطفئ شرَّة غيظه، ووجد في هجاء عبد الله بن معن - وهو رجل عظيم من بيت كبير - طريقاً يعلو به إلى سماء الشهرة في سهولة ويسر. والهجاء فن من الشعر لا يحتاج إلى كياسة ولا يتطلب لباقة. وهكذا طار صيت الشاعر في الكوفة - أول الأمر - وامتد أفقه حين ضربه عبد الله بن معن مائة سوط جزاء ما أفحش في القول.
وفي رأي العقل أن شاعرنا كان يتصنع في كل شيء: في الهجاء وفي الغزل وفي التصوف جميعاً. يتصنع الهجاء وما به مقت ويتصنع الغزل وما به هوى ويتصنع التصوف وما به زهد.
فهو حين شبب بجارية المهدي (عتبة) كان - في رأيي - لا يبتغي من ورائها إلا أن تكون وسيلة إلى بيت الخلافة، يرتفع بها شأنه ويزكو مكانه، على حين لم تكن به لوعة ولا كان به شوق. وإن القارئ ليعجب حين يعجزه أن يجد في نسيبه بيتاً واحداً ينبض بعاطف جياشة أو سطراً يخفق بحب عميق. وليس أدل على ما أزعم من قوله في عتبة وهي من أحب وتدله في حبها واصطفاها بشعره وخصها - وحدها - بقلبه.