فتعبير الشاعر عن نوازع قلبه بكلمة (أتعب) تعبير تافه لا ينطوي على شاعرية ولا سمو. فالكلمة مضطربة قلقة، فقيل النطق وضيعة المعنى لا تتحدث عن صبابة وهوى ولا تكشف عن لوعة الحنين ولا تهتز بلذعة الشوق. وفيها - فوق ذلك - معاني الضيق والملل.
ومما يدل على أنه كان في غزله عابثاً لا يعبأ بمن أحب ما جاء في ص٩٣ من الكتاب حين أنساه كلبه للمال ذكر عتبة فتقول (لو كان عاشقاً - كما يزعم - لم يكن يختلف منذ حول في التميز بين الدراهم والدنانير وقد عرض عن ذكر صفحاً).
لقد أشتهر أبو العتاهية بين العامة بالزهد والتقشف، أما أنا فحين أتحدث عن زهده فلا معدي لي عن أن أستنير برأي الحديث الشريف الذي يقول (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبداً، ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداَ).
وينقل المؤلف في ص٥١ سطر١٣ خبراً يدل على أن أبا نواس كان يجل أبا العتاهية ويعظمه لزهده وتقشفه، فلما سأله سائل (لم أجللته هذا الإجلال؟) قال (ويحك! لا تغفل، فو الله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي). وهذا كلام عجيب إ خاله لا يصدر عن شاعر عبقري فذ مثل أبي نواس تتألق روحه بومضات سماوية تزري بكل ما نظم أبو العتاهية في الزهد. ثم يحس المؤلف كذب الحديث فيقول في ص٥٢ سطر٤ (وأنا من اللذين يرجحون أن زهد أبي العتاهية زهد مفتعل لا يعبر عما في نفسه ولا يصور دخيلتها ولم نطرق فيه إلا المعاني العامة التي يتحدث الناس بها، وإلا فما بال رجل هذا شعره يحرص على المال كل الحرص ويسلك مختلف المسالك لجمعه.)
هذا ولقد رأيت في الكتاب أثر الجهد والصبر وطول البحث والاستقراء مما يدفعني إلى أن أقدر مجهود الأستاذ المؤلف حق قدره وأشكره على أن أخرج لنا صورة حية ناطقة من شاعر لا يعرف أكثر الناس عنه إلا شذرات لا تغني ولا تسمن.