والظاهر أن ما سنه معز الدولة البويهي استمر في بغداد والعراق وتمسك به شيعة بغداد والتزموا القيام به في كل عام؛ حتى اليوم تجد تلك المواكب الحزينة الباكية تقام في العراق ومنه أخذها العالم الإسلامي الشيعي. وقد جر إصرار الشيعة على إقامة تلك التقاليد المذهبية أن حدثت عدة أصطدامات بينهم ويبن إخوانهم الأعزاء من أبناء السنة! ففي الأيام الأخيرة عندما حاول يأسين باشا الهاشمي منعها قامت ثورات دامية في الفرات في لواء الديوانية وفي لواء الناصرية.
أما في العصر العباسي الأخير فقد كانت الفتن المذهبية قائمة على قدم وساق بين الشيعة والسنة من أجل إصرار الشيعة على إحياء المواكب العزائية في كل عام وقت محرم كما سنها معز الدولة البويهي ومن سبقه في العصر الأموي قبل أن يجعل الحجاج يوم عاشوراء عيداً نكاية بشيعة العلويين.
قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤٤١ هـ وفيها منع أهل الكرخ من النوح (على الحسين) وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا وفعلوا ذلك فجرى بينهم وبين السنية فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنية من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين. وأخرج الطائفتان في العمارة مالا جزيلا وجرت بينهما فتن كثيرة وبطلت الأسواق وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به. وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوى بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنية والشيعة على المنع منه وأصلحوا أمرهم بأنفسهم، وأذَّنوا في القلائين وغيرها بحي على غير العمل (وهذا النداء ينفرد به الشيعة في آذانهم) وأذَّنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم (وهذا نداء ينفرد به أذان السنية وقت الفجر) وأظهروا الترحم على الصحابة فبطل عبور النسوى) هذا ما نقله ابن الأثير وفيه ترى التشاحن بين أهالي بغداد لم يكن منبعثاً بدوافع مذهبية فحسب، بل أنه دخلت في تكوينه أسباب أخرى جاهلية هو ما كان بين المحلات من تفاخر، وهذا مظهر لانحطاط عقلية العامة من الناس في تلك العهود وانتشار الجهل بين الطبقات الاجتماعية الدنيا الذي أدى إلى توسيع شقة الخلاف.