التفكير أو بحكم تركه للأمور في أيدي المقادير. أما الشخص الحر الواعي فسيضع أساساً للاختيار وسيعرف في قرارة نفسه بأن ثلاث ساعات متصلة ستضيع من عمره ومن حياته في هذا الفعل البسيط وأنه أقمن به أن يستفيد من بقائه على الأرض على أفضل وجه ممكن ولا شك أن وجوده بأكمله ينقسم إلى جزئيات من هذا القبيل فعنايته بساعة من عمره تضارع عنايته بكل هذه الساعات التي يقضيه على وجه البسيطة. والعالم الخارجي من شانه أن يقدم إليه الإمكانيات حتى يبذل من لدنه ما يحيلها إلى وجود، ويصرف من طاقته الخاصة ما يبعثها من جمودها ويبث فيها الحياة. . . قد تكون المجالات محدودة أمامه، وقد تكون الإمكانيات معدودة عليه! ولكنها مع هذا كله تدع له فرصة للاختيار؛ وفي الاختيار وحده ينحصر وجوده ويتحدد معاشه.
فهناك أنواع كثيرة من الوسائل التي تقدم للإنسان متعاً تلذه ومباهج تريحه وأدوات لتثقيف الذوق وتهذيب الروح. قد تكون هذه الوسائل محدودة في المجتمع الذي نعيش فيه، ولكننا مع ذلك نحكم رأينا ونملي فرديتنا عليها بعملية من الاختيار الواعي؛ وكلما زدنا جهلاً بالمجالات التي يُتيحها لنا المجتمع ارتفعت قيمة الحرية وازداد قدرها. فلو أنني مثلاً لا أعرف غير أربعة وسائل من وسائل التسلية ومن أنواع الملاهي في القاهرة لكان اختياري بنسبة (٤: ١) أي أن حريتي حينئذ تساوي الربع. أما إذ كنت أعرف اثنتين فحسب كانت النسبة (٢: ١) أي أن حريتي آنئذ تساوي النصف.
وهكذا يحدث عندي الشعور بالقلق من ناحية الاختيار، أما الهم فيتولد عندي إحساس به وأشعر كأنما يثقل على صدري من جراء الأسف على ضياع الإمكانيات الأخرى عندما أحدد رغبتي وأثبت إرادتي على شيء بالذات. فأنا مثلاً عندما أذهب إلى المسرح أحس بالهم من جراء طمعي في أن أحصل على أقصى ما يمكن أن تهبني إياه الحياة. ونتيجة لشهوتي في إحتلاب كل ثانية تمر بي واعتصار كل لحظة تمضي علي وأنا حي أرزق. ولذلك تراني في المسرح مهموماً من أجل تلك الإمكانيات الأخرى (التنزه في الخلاء - البقاء في البيت - زيارة الصديق) التي قتلتها بيدي وأعد منها بمحض إرادتي مع أنها قد تكون أعود علي بالخير من كل ما أنا فيه من استمتاع أو حبور. . . ولكن يكفي بعد هذا أن أحس بأنني قد اخترت وأنا حر من كل قيد، وأن مسئولية هذا الاختيار تقع على عاتقي