فالعادة من شأنها أن تفسد دلالة الحرية من جانبين: جانب الآلية في إتيان الأعمال وإصدار الحركات، وجانب الشعور بالاطمئنان عند مواجهة المكنونات المستسرة في ضمير الغيب. ويقول رافيسون في كتابه عن العادة إنها توحي - كما توحي الأفعال الغريزية - بالجنوح إلى هدف مقصود من غير ما إرادة أو شعور. وهذا صحيح من ناحية كونه دليلا على خلو العادة من الإحساس أو من البطانة الوجدانية كما يقول علماء النفس. فيصعب أن تقول بوجود أي نوع من أنواع المخاوف وأي ضرب من ضروب المنازع عند أداء الأفعال التعودية. وبناء على ذلك تمحى كل حرية وتزول كل إرادة وتختفي مشابه الاختيار الذاتي، فهذه كلها لا تتوفر إلا حيثما كان الإنسان قادراً على الانفعال لها والاهتمام بشأنها والتوتر من أجلها.
والحرية من شانها أن تبعث في الإنسان ألواناً من الخوف والفزع، لسب بسيط وهو أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوجوده ومعاشه. فيكفي أن تتصور أنك صاحب الأمر والنهي في إعداد حياتك وفي تقرير مصيرك وفي تكييف أقدارك حتى تنفجر في رأسك عيون الخوف، وحتى تثور في صدرك عوامل الرعب، وحتى تنتاب جسمك عوارض الحمى. . . فأنا مثلاً أقرر مصيري - ككاتب - على هذه الورقة البسيطة البيضاء تحت عيني وأضع لنفسي قيوداً من الرأي لا أستطيع الفكاك منها حين يأتي المستقبل. وانظر على هذا النحو في حياة الناس وتأمل أفعالهم على ضوء كل من العادة والحرية فتجد أن الأفعال الحرة وحدها هي التي يوازيها على طول الامتداد شعور بالقلق ويحس صاحبها بأنه يأتيها لأول مرة. وذلك لأنها مشدودة إلى كيانه شداً بحيث لا يملك في النهاية إلا أن يخضع لها وأن يكون مأسوراً بها.
والحق أن الأفعال الحرة الواعية لا يزاملها الشعور بالقلق وحده، وإنما يرافقها أيضاً - إلى جانب هذا - إحساس خفي بالهم. ولنضرب لهذا مثلاً بواحد من الناس الذين يملكون الوقت من اجل الذهاب إلى المسرح أو التنزه في الخلاء أو البقاء في البيت أو القيام بزيارة صديق. ولنفرض مقدماً أن هذا الشخص هو بعض الذي يهمهم الوقت ويحسون بعامل الزمن إحساساً قوياً في معاشهم بحيث يضطربون لانقضائه حينما يمضي هباء. سيضطر أولاً إلى عملية الاختيار، وهي عملية قد تكون سهلة عند الإنسان العادي بحكم انصرافه عن