ازداد معرفة بالضرورة الحاصلة في الوجود وبالحتمية الضاربة في أنحاء الكون. وتقتصر الفائدة المرجوة من وراء الفلسفة والمعرفة الصحيحة في أنها توقفه على قوانين الأشياء وتجعله قادراً بالتالي على متابعتها ومسايرتها.
وإذا كان من نعمة الجهل علينا أنه يجعلنا ننخدع عن أنفسنا ونحسب أن الحرية ملك أيدينا، وأننا نفعل ما نشاء أن نفعله من غير أن تتدخل قوة في الأرض أو في السماء، فمن بلوائه - في مقابل هذا - انه يملأ قلوبنا بالخوف، وينشئ في نفوسنا ضروباً من القلق، ويبعث في نفوسنا ألواناً من الجزع والهم. وذلك طبيعي ومعقول جداً إذا أنعمنا النظر في الحقيقة الماثلة أمامنا وتبينا فيها ملامح الغموض والإبهام وعدم التعين. فالإنسان في أمثال هذه المواقف يحس بالجزع حينما يواجه عالماً مستسراً غير معلوم لديه وليس داخلاً في نطاق تجاربه الذاتية. ويمكن أن نشبه هذه الحالة بموقف رجل للمرة الأولى أمام الميزان الذي لا يعمل إلا بعد وضع قرش مثقوب فيه. إنه لا شك سيحس بنوع من الخوف على القرش طيلة المد الذي يسبق خروج التذكرة المكتوبة. أما الرجل المتحضر المجرب لمثل هذه الآلة مرات ومرات فلا دخل للجزع في عمله هذا على الإطلاق، ولا يكاد يحس بأي إشفاق على القرش وهو يلقي به من داخل الثقب.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الفتى الذي يصوب عينيه نحو الزمن، هو يغض بالممكنات عن طريق المستقبل الغامض المجهول. يمتلكه الذعر ويهزه الخوف على ذلك الشيء الخفي وهو قاب قوسين أو أدنى من العدم. إنه يشرف على حقيقة الوجود وهي في طريقها أن تكون على نحو من الأنحاء لا يعلم مداه ولا يدرك منتهاه. حتى العلم الطبيعي الذي كان مجالا من مجالات الثبات واليقين قد فقد كل الصفات الحتمية والاطراد. فأصبح العالم غير متأكد من خلوص التجارب إلى نفس ما خلت إليه في الماضي على الرغم من توافر كل ما من شأنه أن يكفيها ويهيئها للحدوث على وجه واحد بالذات. فالإنسان عندما يواجه تجربة من أي نوع لأول مرة يكون في خوف من إلا تكون؛ أو أن تكون ولكن على نحو غير الذي يؤمل فيه ويطمح إليه. وقد تتغلب المعرفة أو التجارب الكثيرة على هذا الشعور بالخوف ولكنها لا تقضي عليه قضاء تاماً إلا بعد أن تتدخل العادة. وهي كما قلنا في صدر هذا المقال عدو الحرية الأكبر.