وتخرجت - يا صاحبي - في مدرستك لتصير موظفاً في وزارة الأشغال، وانفلت من شبح أبيك وقسوته لتنشق - لأول مرة - عبير الحرية والخلاص، ثم اخترت لحياتك فأصبحت - بعد سنوات - زوجاً وأباً ورب أسرة. أما أنا فقد طوحت بي الحياة في مطارحها، لا أستقر في مكان إلا لأفزع عنه، ولا أهدأ في بلد إلا لأطير عنه. فصرفتني شواغل العيش عن أن أراك وأنا لا أنسى أنك كنت لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش.
ثم هفت نفس إليك - بعد عمر من عمري - فانطلقت، فرأيتك رجلاً تتوثب قوة فقوة، وتفيض بشراً وسرورا، يلمع الأمل في ناظروك ويبسم الرضا من نضارتك، وبين يديك صغار يرفون حواليك كالأقمار رونقاً وبهاء، يملأن الدار جمالا وسعادة، ويفعمون قلبك بالغبطة والبهجة. أما زوجك فكانت روح الدار وريحانها.
وحين دخلت دارك، أحسست أنك تسعد هناك بروح الجنة على ثرى الأرض، وأنك تنعم بلذة الخلد في فناء الحياة، وشعرت أنا بأن لأعزب رجل تافه خسر بهاء الدنيا ورونق الأسرة.
ثم ضربت الأيام بيني وبينك - مرة ثانية - فوجدت فقدك في قرارة نفسي ولكن قلبي كان ينبض بالرضا والطمأنينة لأنه رأى دارك تنهق بالسعادة والرفاهية.
وتناهى إلي - بعد سنة واحدة - أنك تطب لمرض ألمّ بك فتاقت روحي إليك، لعليأستطيع أن أرفه عنك بلاء الداء. أو أزيح صفعات الألم. وحين وجدت السبيل إليك، اندفعت أنت تحدثني حديثك، فقلت: (. . . وذهبت أفتش عن دواء لدواء عيني عند طبيب من ذوي الرأي والتجربة. ووجد الطبيب فيّ ضعفاً فاستغله فتهدّم عليّ يستنفد وفرى ويبتلع مالي. وطالت بي مدة العلاج، وللطبيب أسلوب فيه الخديعة والأمل، يستر من ورائه أفنان من الجهل والجشع، وأنا لا أجد معدي عن أن أستسلم في خضوع وأنا أستخذى في ضعف. ثم ارتفعت عن عيني يد الطبيب ففزعت إذ أحسست بأن نور عيني يوشك أن ينطفئ فتظلم الحياة في ناظري إلى الأبد؛ ولكن الأمل كان يعاودني آنا فإنا، لأنني كنت أرى بصيصاً من نور يكشف لي الطريق، فطرت - بعد لأي. إلى الطبيب أستجديه وأستعينه فوضع يده - مرة ثانية - ثم رفعها فإذا أنا أعمى قد كف بصري (آه، يا صاحبي! لقد أنهار كياني وأنهد