عزمي وتداعى ركني وأصابتني البلوى في الصميم من قلبي، وفي العزيز من روحي، واعتراني اليأس والأسى، وآذاني ما انتهيت إليه. فكنت أنطلق إلى حجرتي وحيداً أنخرط في بكاء مر طويل، وأنا أشفق على أولادي أن تصفعهم النكبة فتخبوا فيهم جذوة الحياة، وتخمد روح السعادة في الدار، ويعصف بنا الذل ويقتلنا الضنى وتذهب بريحها الفاقة، فكتمت الأمر في قلبي وفي قلب زوجي.
(وثارت ثائرتي - ذات مرة - فانطلقت إلى الطبيب، برفقة زوجي، أريد أن أثأر لنفسي. وحين اندفعت إليه أحاول أن أنشب أظافري في عنقه أنفلت من بين يدي فارتطمت بالجدار فسقطت وأنا أصرخ في غيض وكمد لأنني لم أشف غلة نفسي.
وانطوت الأيام وأنا أعالج لوعة نفسي بالصبر، وآسو جراح قلبي بالتأسي، غير أنني كنت أفزع لكل نأمة وأجزع من كل صوت وأهرب من كل صديق. ورقت مشاعري فلازمني الصمت والبكاء. . . ثم عافت نفسي أن تنزل عن كبريائها، وأنا من بيت دين وورع، يرتفع عن الاستخذاء في البلوى ويسمو على الضعف في الرزء، فأمسكت على مضض وابتسمت على لوعة وأسلستُ على بثّ.
(ثم وقعت بين فكين من الحياة فيهما الغلظة والجفوة، فأنكرني رفاقي في غير رحمة، وفزع عني ذوو قرابتي في غير شفقة أما الحكومة فكانت الداء العياء والبلاء الأكبر، فلقد طردتني من عمل لا أمل فيه ودَّعتني عن مكان لا أصبو إليه، لم ترحم صبيتي ولا أشفقت على ضعفي، فسلبتني راتبي ومنعتني حقي ونبذتني إلى الشارع.
(وفي ذات مساء جاء ساعي المدبر يعتذر بلسان سيده البك عن ما سطرته يد السيد في خطاب الرفت. ورآني الساعي في محنتي فأنكب على يدي يقبلهما في عطف، ويبللهما بدموع المحبة والإخلاص. . . دموع الرقة والإنسانية، فانهمرت عبراتي، انهمرت لأنني ألفيت في الساعي كرماً وشهامة على حين انطوى قلب سيدة البك على ضعة وسفالة).
وثارت شجون صاحبي فماتت الكلمات على لسانه. . . سكت وجبينه يرفض عرقاً لأنه يحاول أن يكتم نوازع نفسه عني وهي تضطرم في عنف وشدة. . . على حين أني لم أنس أنه كان لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش.