فطن أبن خلدون إلى هذا قبل (دوركيم) إذ يرى أن المجتمع ينتقل من البداوة إلى الحضارة، وهما حالتان طبيعيتان تعرضان له حتى توفرت الظروف. ويحدث هذا التطور تبعاً لنوع المعاش وانتقاله ومن البسيط إلى المركب، من الضروري إلى الكمالي، ومن البداوة إلى الحضارة: فأهل البدو على الفطرة الأولى، وهم أقرب إلى الخير من أهل الحضر، ونظراً (لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم) فهم لذلك أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر.
ومن مظاهر البداوة:(العصبية) التي تكون بالالتحام بالنسب بين القبائل و (سكني البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية) التي بها (تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم) وتكون الرياسة لمن كان (أعرق في البداوة وأكثر توحشاً (والرياسة في نظر أبن خلدون سؤدد، وإذا أنقلب السؤدد إلى الحكم بالقهر والغلبة انتقلت الرياسة إلى الملك وطرأت على المجتمع عوارض الترف والنعيم والأنقياد، ويعرض له التنافس في معالي الأمور كما تعاوره الوحشية وبكل ذاك يكون المجتمع في صميم طور الحضارةلأنالمعاش كان ضرورياً فصار كمالياً، ولأن (الحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع). والملك يتسع إذا كان أساسه الدين أولاً.
هذا هو المجتمع الدنياميكي عند أبن خلدون. أما منتسكيو فيستنتج قوانين طبيعية أولا هي أسباب التطور في المجتمع، منها السلم الناشئ عن شعور الفرد بضعفه إزاء المتوحشين فيشعر (بالدونية) ولا يشعر بالمساواة، ولا يرغب في المهاجمة فيسالم، ويتلو الشعور بالسلم الشعور بالحاجة ثم الشعور بالفرحة المشتركة.
ومن أهم العوامل الفعالة في المجتمع الإنساني (الدين) لما له من أثر في الأخلاق والتربية، وكذلك في السياسة والملك. ويفضل أبن خلدون الأحكام الشرعية على الأحكام التعليمية لأن الأولى يكون الوازع فيها هو الضمير لا المخافة والانقياد كما هو الشأن في الأخرى. لهذا يعتبر التعاليم الشرعية هي أصول التربية والأخلاق، وكل ما عداها مفسد ضار، (فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس، لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي).