التي كانت تتدفق على مصر. . . فلم يجد المماليك بداً من فرض ضرائب باهظة على الأهالي. . . ولم يكن شرهم إلى المال قاصراً على حاجتهم إليه. . . فلو كان الأمر كذلك لهان الأمر. . . ولكن نظامهم قضىبألا يقوم لواحد منهم شأن إلا بالإكثار من المال وذلك لشراء المماليك. . . والإغداق عليهم من أمواله وجاه حتى يضلوا على ولائهم. . . لهذا أخذوا يمتصون دماء الشعب، ويحملونه مالا طاقة له به. حتى وصل الحال بالفلاح المصري إلى أنه لم يجد سكناً يقيم فيه. فكان يلتحف العراء، وذو اليسار منهم يعيش في أكواخ من الطين، ولا يجد الواحد منهم ما يأكله سوى الخبز الأسود المصنوع من الذرة والحلبة. . . يتناوله بالبصل النيئ أو الأعشاب التي يجمعها من حروف الترع والمجاري، ويطبخها بغير إدام، وكان رداؤه قطعة من القماش المصبوغ بالنيلة وهي ميراث الفلاحين وأليها ينسبون (أصحاب الجلابيب الزرقاء). . . وأما الغنى والرفاهية، والبذخ، والذهب، والفضة. . . فقد كانت للمماليك. . . ذكر فولني في كتابه (رحلة إلى مصر وسوريا) أن علي بك الكبير ابتاع خنجراً مرصعاً بالجواهر الكريمة بمبلغ ٢٢٥ ألف جنيه، وأنه حينما خذله أنصاره، التجأ إلى صديقه الشيخ ظاهر في عكا، وكان مقدار ما أخذه معه من الأموال (حوالي أربعة وعشرين جنيه)، يحملها على ٢٥ جملاً، وكان معه من المصاغ والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك. ويذكر أحد المؤرخين الذين زاروا مصر بعد سقوط القاهرة في أيدي الفرنسيين أن الجنود الفرنسيين كانوا يجدون في ملابس كل واحد من المماليك الصرعى في ميدان القتال في واقعة أمبابة ما لا يقل عن مائتين أو مائتين وخمسين قطعة من الذهب عدا ما تقدر به ملابس الواحد منهم وطيلسانه وسلاحه وسراج جواده من المبالغ الطائلة، هذا في الوقت الذي لم يكن أهل مصر يجدون فيه ما يأكلون!
وكان المماليك كثيراً ما يتنازعون فيما بينهم للوصول إلى الحكم، ووجدت بينهم فتن وقلاقل وحروب داخلية عنيفة كانت توقع الفوضى بالبلاد، وكانت الدولة العثمانية تعمل على بقاء هذه المنازعات بينهم. . . بل أنها كانت تعمل على التفرقة بينهم وغرس بذور الأحقاد في صدورهم. حتى لا يستبدوا بالسلطة. فلم يكن من المعقول - والحال كذلك - أن تصلح حال الشعب المصري، وحكامه المتصرفون في أمره. . . منقسمون على أنفسهم، لا هم لهم إلا جمع الأموال. . . ولا غرض لهم ولا مأرب إلا الوصول إلى الحكم والسيطرة على مقاليد