للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأومأت السيدات إلى جندي منهم يهمس باسم والده اللورد - صاحب الملايين الشهير، وهو ينشد قائلاً (دعونا نبتهج إيه الأخوان، فغداً نموت).

كان كل هؤلاء الرجال الذين قربوا حياتهم لمذبح آلهة الحرب، يشربون العرق في جرعات كبيرة، ويضحكون، وينشدون، ويلقون بتحياتهم في حماس إلى أولئك الملاحين المغامرين الذين كانوا يقضون الليل على الشاطئ، ثم يعودون في صباح اليوم التالي لمجابهة العاصفة بشجاعة.

ولاح على الضابطين الصربيين المرفقين لنا، دلائل الرضا. فقد زج بهما وطنهما إلى باريس، مدينة الأحلام، تلك التي ظالما ملأت أفكارهما أثناء إقامتهما المملة بمعسكر في بلدة ريفية. وكان كل منهم يعرف كيف يسرد قصته. موهبة عادية في بلد يكاد يكون كل من فيه شاعراً. فعندما مر لامرتين بالمقاطعة التركية بالصرب وقتئد منذ حوالي قرن، عجب لما للشعر من أهمية في تلك المقاطعة: مقاطعة الرعاة والمحاربين. وكانت الأفكار والذكريات تنظم شعراً في الأرض قلّ أن تجد فيها من يقرأ ويكتب. لقد مد المؤرخون الوطنيون من أجل الإلياذة الصربية، بما نظم من أناشيد جديدة.

ونذكر الضابطان وهما يحتسبان الشمبانيا، بؤس أيام تراجعهما منذ أشهر مضت: الكفاح ضد الجوع والبرد، والمعارك التي دارت على الجليد، واحد ضد عشرة، وفرار الناس والحيوانات في ارتباك مفزع، والمدافع الرشاشة والبنادق تنطلق دون انقطاع إلى مؤخرة الطابور، والقرى المحترق، والجرحى، والمشردون يئنون وسط اللهيب، والنساء المشوهات ولقد حامت حولهن الغربان، وفرار الملك بطرس العجوز، الكسيح من مرض الروماتزم، دون أن يكون له معين سوى عصاه الخشبية، وقد أخذ هو ومن معه من حاشيته يتسلقون الجبال، محني القامة، صامتاً، يتحدى القدر وكأنه أحد ملوك شكسبير.

وراقبت الضابطين الصربيين وهما يتحدثان. كان كلاهما في غضارة الصبا، قوياً ممشوق القمة، ذا أنف اقني كأنه منقار النسر، وشارب مدبب الطرف، وقد انفلتت خصلات الشعر من تحت قبعتيهما الصغيرتين. وارتدى كلاهما حلة في لون الخردل، ولاح عليهما الهدوء الذي يضفي على الشجعان الدائبين على نفض الموت من فوق أكتافهم.

واسترسلا في الحديث: تكلما عما حدث منذ شهور قلائل، وكأنهما يتحدثان عن مغامرات

<<  <  ج:
ص:  >  >>