للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ماركو كرايلوفتش (السيد) الصربي الذي تسلح بأفعى كأنها الحربة، ليحارب بها شاربي الدماء بالغابات، ومال يهما الحديث إلى ذكريات طفولتهما القاسية.

ثم قام صديقنا الفرنسي، وأستأذن ورحل، وكان أحد الضابطين يقطع استماعه إلى الحديث بالتطلع إلى مائدة جانبية. كانت ترنو غليه عينان حالكتان، تعلوهما قبعة من الريش الحرير الأبيض، ولا شك أنهما استرعتا ناظريه، فقد هب واقفاً كأنما أنجذب بدافع لا يقاوم، وسارة صوب تلك المائدة وإن هي إلا لحظات حتى اختفى، واختفت معه القبعة الحريرية.

وتركت وحيداً مع الضابط الآخر، وكان أصغر من رفيقه سناً وأقل منه حديثاً. وأرتشف رشفة من قدحه وهو يتطلع إلى الساعة الموضوعة على المقصف. ثم أرتشف رشفة أخرى؛ وأخيراً نظر إليّ تلك النظرة التي تسبق دائماً الإفضاء بسر خطير. وأدركت حاجته إلى الإدلاء إلي بحادث مؤلم يعذب ذاكرته ونظر إلى الساعة مرة أخرى: كانت الواحدة صباحاً.

وعلى حين غرة، أخذ يصيغ حديث الصامت في كلمات، قال - حدث ذلك في هذا الوقت، منذ أربعة أشهر. . .

وأخذ يتابع حديثه، وأنا أتخيل معه الليل الحالك، والجليد الذي يغمر الوادي، والجبال الناصعة البياض المغطاة بأشجار الزان والصنوبر، وقد هزة الريح إفنائها فتساقطت منها ذرات البرد الأبيض. ورأيت أطلال قرية، ترابط فيها فرقة صربية، آخذة في التراجع صوب البحر الأدرياتيكي.

كان صديقي يقود مؤخرة هذا الحرس، كتلة من الرجال، محلة أصبحت قطيعاً من الرعاع. يرافقهم أهل القرى في ذهول من الألم والخوف، فيتحر كون بلا إرادة كالآلات، وينساقون إلى الأمام كالحيوانات، وكانت النساء، الداكنات، المشوقات، القويات، يسرن في صمت فاجع، وينحنين على الأموات أثناء مرورهن فينزعن منهم بنادقهم وذخيرتهم.

وبدا الظلام متوهجاً بضوء أحمر متلألئ من القنابل المتطايرة بين الأطلال. فاستجاب إليها أعماق الليل وأقبلت معه التوهجات القاتلة، وأز في الظلام الدامس الرصاص: حيوانات الليل الخفية.

كان كلما أتى الصباح، يبدأ الهجوم، وكانوا يجهلون عدد من هناك، أولئك الذين يصطفون

<<  <  ج:
ص:  >  >>