أجدبت حياتي وأقفرت دنياي وانسدت في وجهي سبل العيش، فما عدت ألمس روح الخصب إلا في لقياك، ولا أنشق شذا الإنسانية إلا في مجلسك، ولا أحس نسيم العزاء إلا في حديثك أنت. . . أنت أيها الرجل والصديق والأخ)
قال لي صاحبي:(وأخذت أروِّض نفسي على حياة الظلام الدامس والوحدة الممضة والشظف العاتي، فرقت مشاعري وأُرهفت حواسي، ولبست المنظار الأسود أبغض ما يكون إلي لأداري خلفه لوعة قلبي وضعف نفسي، وليكون حجاباً على أعين أولادي فلا تنفذ أبصارهم إلى علتي. وأحسست بعد حين أن الطبيعة تحبوني بعكف من لدنها علَّها تعوضني بعض ما سلبتني فأصبحت شديد الوعي أحفظ ما يلقي عليَّ لأول مرة؛ حديد السمع والشم أسمع النغمة الخافتة تصدر من مكان قصي، وأعرف القادم من وقع قدميه، وأنشق ريح الرجل فأتبينه مقبلاً أو مدبراً؛ دقيق الحس لا يخطئ حدسي مكان الجدار وهو على خطوات مني، ولا يكذب ظني موضع المنعطف ولما أبلغه بعد؛ نافذ البصيرة أستشف طويا النفوس وهي تختلج بين الضلوع، وأحس نوازع القلب وهي تخفق بين الحنايا. . . فهدأت ثورتي وسكنت جائشتي.
وجاء صغاري - ذات اليوم - يتدافعون ويسألون: أحقاً ما نسمع يا أبي، هل فقدت بصرك ووظيفتك؟ وأنا رجا أقدس المبدأ والعقيدة، وأومن بأن الطفل بريء بطبعه نقي بسليقته، فهو لا يتعلم الكذب والخداع إلا في داره، ولا يتلق اللؤم والمكر ألا من أبويه، ولا يسلك سبيل الضعة والحساسة إلا بقدر ما يجدهما في بيئته. ولقد أخذت على نفسي منذ أن صرت أباً لألا أحدث أولادي حديث الكذب والخداع أبداً. فقلت: (نعم يا أبنائي!) وشعرت إذ ذاك بقسوة الصراحة، فلقد خُيِّل إليَّ أن كلماتي تهبط على هذه الأرواح الصغيرة المرحة مثلما تهبط الصاعقة الجاسية على شيء تافه ضئيل. واستشعروا الصدمة العنيفة فاستخرطوا في بكاء مر طويل فيه الحرارة واللوعة، وفيه الشفقة والحنان. . . استخرطوا في بكاء مرّ طويل وأنا بينهم في حيرة وذهول أهدئ الروع فلا يهدأ، واسكن الثورة فلا تسكن. وجاءت كبرى بناتي وهي صبية جميلة القسمات خلابة السمات رائعة الحسن طيبة القلب رقيقة الزاج مرهفة الحواس، جاءت لتضمني إلى صدرها وهي تذرف عبرات حرى تتدفق مدراراً على وجهي، وتصرخ في غير وعي صرخات مفزعة:(أبي. . . أبي) واندفعت