للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تصرخ في لوثة وجنون، وحار قلبي لما رأيت، وتراءى لي أنني أشهد مأتماً هو مأتمي، وهؤلاء الصبية يشيعون أباهم إلى رمسه، فنازعتني نفسي إلى أن أستسلم لضعفي فأشاطرهم البكاء وأشاركهم النواح عسى أن أسري عن نفسي أو أخفف من شجو أولادي.

(آه، يا صاحبي، لقد كان مشهداً رهيباً مرعباً، كاد يعصف بصبري وإيماني، فسولت لي خواطري أن أفر من داري لأقذف بنفسي في اليم، أو أقدّ قلبي بسكين، أو ألقي بروحي في هاوية مالها من قرار. ولكني خشيت أن أفجع أولادي مرتين، وفي القلب إيمان وأمل؛ فسكت علي أسى يتأجج، وكتمت شجوني على حزن يتوهج، وأطرقت وأنا أربت على كتف هذا، وأضم ذاك إلى صدري، وأقبل تلك في شوق وحنان.

(وعجب الصغار من صمتي وأخذتهم روعة عطفي فهدأت الثورة، وفي النظرات ذهول وحنان. وانطلقنا جميعاً في موكب الحياة؛ ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه. أما أنا فما ظفرت من ميراث أبي بشيء لأن أخي الأكبر كان قد عبث بتجارة أبي وعاث في حساباته فبعثر المال كله بطريقة شيطانية وضيعة.

(انطلقنا جميعاً في موكب الحياة ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه هي الأمل الباسم في ظلمة الحياة، هي الشعاع الدقيق ينفث في القلب الراحة ويبعث في النفس الطمأنينة. وحدثتني نفسي بأن أهجر المدينة إلى القرية خشية أن تعصف بنا طلبات المدينة أو أن ترهقنا حاجات الحضارة. ووجدت في الخاطرة منفذاً ففزعنا إلى هناك عند أول زفرات الهاجرة.

(وفي القرية وجدت الراحة التي تعصف بالنشاط، والخمول الذي يقتل الفكر، والوحدة التي تورث الفناء، والهدوء الذي يثير الأعصاب، والفراغ الذي يشغل البال، والجهل الذي يسخر من الثقافة. فكنت أقضي يومي وحيداً على مصطبة إلى جانب الباب في فيء شجرة، أفتقد الصاحب وأفتقر إلى السمير، فطالت أيامي وقد أفعمها الملل والضيق، ومن حولي أولادي تصرفهم المتعة وتشغلهم الخضرة وتسعدهم الحرية.

(ثم هبت أول نسمات الخريف تحمل معها المشكلة الكبرى. . . مشكلة الصبية تناديهم المدرسة. وأقبلت زوجتي تحدني حديثهم في رفق ولين، فألقيت السمع إلى كلامها غير أني لم أجد الرأي: ترى هل يعيش الصغار وحدهم في المدينة يقاسون الوحدة والضياع، وأظل هنا أحمل نفسي وهم أولادي، أم انطلق فأذر الأفدنه، وهي عدتي على الزمن القاسي

<<  <  ج:
ص:  >  >>