الدار وصفقت الباب ورائي تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئاً عن كاهلي. وتناولت طعام العشاء بدون شهية وذهني مشتت تائه، ولما أويت إلى الفراش واستعرضت حوادث النهار غمرتني آلام عنيفة حادة. وأغمضت عيني محاولة إبعاد صورة الحمال عن مخيلتي، لكنها ظلت تتراءى لي في بشاعة، بدوي جرس دراجته كأنني في سوق الحدادين.
استيقظت في الصباح منقبضة الصدر واهنة القوى، وتبدت لي المدرسة شبحاً مفزعاً مخيفاً. ولم أستطع طوال ساعات الدروس أن أرفع أنظاري إلى إحسان شأن من ارتكب فعلة منكرة تورده موارد الخجل. وما أن أعلن الجرس انتهاء الدروس حتى اجتاحني شعور بالضعة والهوان. وتمنيت من صميم قلبي لو أن (الفراش) سها عن دق الجرس ودعا الدرس الأخير يمتد بنا ساعات أخر. كنت أود أن أتجنب رؤية الحمال بأي ثمن كان، فقد كان يتمثل في ذهني فأحس بالاشمئزاز وتتملكني رغبة في الفرار والاختباء عن الأنظار.
حاولت أن أختفي عن عيون رفيقاتي حالما اجتزت باب المدرسة فأسرعت الخطو وأنا ألتفت حولي في خجل وحدة وعذاب. وكان الحمال يتعقبني بدراجته تارة يدنو مني وأخرى يبتعد عني. ولمحت عامر يمشي في موكب من زملائه الطلاب بطلعته البهية ولباسه الأنيق، فهممت أن أجري إليه وأحتمي به، ولكن سرعان ما تذكرت أنني لست سوى معجبة خجولة لا يعرف عنها أي شيء. فعضضت على شفتي في خيبة يمازجها الغيظ، وتابعت سيري في عجلة وارتباك وأنا أغمغم في حسرة: يا للحظ العاثر!
ذاعت قصة غرام الحمال بي وتلقفتها ألسنة زميلاتي بالتهليل والترحيب، فلا بد لألسنتهن أن تثرثر في موضوع ما. ولا يداخلني شك أن إحسان قامت بالنصيب الأوفر في نشر القصة، لا سيما وأن علاقتنا انفصمت عراها إثر ذلك اليوم. ولم يكن بوسعي أن أحتمل البسمات الغامضة التي أخذت ألمحها على شفاء زميلاتي، أو أن أطيق النظرات الساخرة التي بدأت أقرأها في عيونهن، وكم تمنيت لو تنشق بي الأرض وتبتلعني حين يعلن الجرس أوان الانصراف وتنطلق أفواجنا إلى الشارع، فتتأهب زميلاتي للتمتع بمنظر الحمال العاشق. كنت أحس أنني أوشك أن أذوب خجلاً وذله ومهانة. وكنت أضرع إلى الله أن يقع له حادث. . . حادث يعوقه عن الحضور. لكنه ظل يواظب على الحضور في الموعد المعين كل يوم كأنه المتدين يؤدي الصلاة في ميقاتها! ولم يكن باستطاعتي أن أتخذ