أي إجراء ضده لأنه لم يتحرش بي أبداً. ولكن أعصابي بلغت من التوتر ذات يوم حداً عنيفاً، فلم أشعر إلا وأنا أنفجر صائحة في وجهه حين اقترب مني بدراجته:(ألا تكف عن ملاحقتي وتنقذني من شكلك القذر ودرّاجتك الكريهة؟!) فاصفر لونه واحمر، وانسل بعجله في هدوء دون أن يتفوه بلفظ واحد! وكانت عيناه تلمعان ببريق كئيب وشفتاه ترتجفان في انفعال شديد!. . .
وأقبل اليوم التالي وإذا بالمشهد يفقد إحدى عناصره ولأول مرة، وهو دراجة الحمال! وشعرت بسرور وارتياح مشوبين بقلق خفي. وخيل إلي أنني تخلصت من مرآه نهائياً، ولكن سرعان ما تبدد ظني، إذ لمحته منزوياً وراء إحدى أعمدة الشارع فأحسست بقليل من الكدر. وكان على غير عهده، يرتدي جلباباً نظيفاً وسترة جديدة، وينتعل حذاء لماعاً، ويضع فوق رأسه طاقية مزركشة وكان وجهه نظيفاً كمن اغتسل منذ برهة وجيزة وما كاد نظره ينالني حتى انطلق يحدق في كالمأخوذ. ولم أستشعر لنظراته وقعاً شيئاً كالذي كنت أحسه من قبل، بل خالجني شعور من يقع بصره على مشهد يبعث على الشفقة والرثاء. ولكن هذا الشعور لم يدم طويلاً، فقد عاودني في الأيام التالية الإحساس بالغيظ والحنق كلما مررت به في ركنه المعهود، ولمحته منزوياً في ترقب وشوق. وكنت أصمم كل يوم على الامتناع عن ملاحظته حين مروري بموضع انتظاره، ولكن عيني كانت تنجذب إلى تلك الزاوية بالرغم مني. واسفزني هذا الحال أشد الاستفزاز فعقدت العزم على ارتداء النقاب. ومع أن فضول زميلاتي في مراقبته كان قد فتر غاية الفتور حتى لم يعدن يأبهن لأمره، لكن رغبة شديدة ألحت بإخفاء وجهي! ولا أدري كيف فشلت في قهر تلك الرغبة مع أنني كنت على رأس الطالبات الثائرات على الحجاب، بل الداعيات إلى نبذ العباءة لا البرقع فقط. وقلت لنفسي في شيء من العناد والتشفي وأنا أبارح المدرسة والبرقع يحجب وجهي لأول مرة:(لن يستطيع أن يراني بعد الآن). وصح ما توقعته، فقد مررت به وهو منزو بركنه المعهود فلم يعرني التفاتاً، ولبث يبحث عني بين الطالبات بعينين مشوقتين.
ويبدو أنني أثرت قلقه يتصرفي الجديد. إذ برز في اليوم التالي من ركنه المعهود وظهر على الرصيف وهو مسند الظهر إلى العمود الضخم. وكان يفحص أسراب الطالبات بوجه متقلص العضلات وعينين مضطربتي النظرات. وأحسست بالسرور والارتياح حين