مررت به ورأيته جاداً في البحث عني بين فئات التلميذات دون أن يعثر لي على أثر.
مررت أيام ثلاثة على ارتدائي النقاب والحمال ملازم لموضعه على الرصيف يتفحص وجوه الطالبات في قلق ولهفة وكنت قد اعتدت على النقاب بعض الشيء خلال تلك الأيام بعد أن كابدت في اليوم الأول من تطفله على وجهي أشد الضيق وأحسست أن أنفاسي تكاد تختنق. وفي ظهيرة اليوم الرابع حدث ما لم أكن أتوقعه، فما كدنا نتدفق من باب المدرسة كالسيل حتى فوجئت به فوق عجلته وقد عاد إلى زيه القديم؛ فبدى قذر الملابس عاري الرأس حافي القدمين! ومضى يخترق أفواجنا في تئن وهو يتمعن في وجوه الطالبات في اهتمام. وكان يصل إلى الرأس الشارع فيقفل راجعاً إلى باب المدرسة، ثم يعاود السير إلى رأس الشارع ثم يعود من حيث بدأ، إلى أن احتجب عن بصري. وغمرتني فوره من العواطف المتضاربة، وأنا أرقبه يروح ويجيء فوق عجلته والمرارة تفيض من قسماته. وأحسست بلذة يشوبها كدر وارتياح يعكره قلق مبهم.
ورأيته ساعة العصر وهو يتجول بين جموعنا في خيبة وقنوط والكآبة تغلف ملامحه بغشاء كالح. وكنت متجهة إلى الدار وأنا خالية الذهن من أية فكرة معينة. لكنني أحسست بغتة برغبة قوية في اقتفاء أثره. ولم أتردد في تحقيق تلك الرغبة طويلاً، إذ شرعت أتلكأ في السير حتى أصبحت في أعقاب الطالبات. وتسنى لي بذلك أن أرصد حركاته في حذر واحتراس. فما أن أيقن من خلو المدرسة من التلميذات حتى عاد أدراجه يسوق عجلته في يأس وخذلان. وبلغ دكان لكراء العجلات مترجل من عجلته وسلمها لصاحب الدكان بعد أن نقده مبلغ من المال. وسلك الشارع المؤدي إلى (ميدان الشرطة) فتبعته عن قرب والخوف والوجل يشداني إلى الوراء في حين تدفعني رغبة عارضة إلى الأمام. انتهى به المسير إلى الفسحة الممتدة أمام سوق البقالين فعرج على ناصية الشارع المجاورة لمركز الشرطة وجلس إلى نفر من الحمالين الذين اعتادوا أن يتخذوا تلك الناحية مركزاً. وتوقفت بالقرب من دكان بقال بجانب الناصية متظاهرة بالرغبة في الشراء بينما انطلقت عيناي تدوران في المكان. وناوله أحد الجالسين عدة العمل وسأله:(ألم ترها!؟) فهز رأسه في خيبة ومرارة دون أن ينطق حرفاً. فأندفع آخر ذو أنف معقوف كمنقار البومة وبنيان متين كالفيل يقهقه في سخرية لاذعة، فسأله في خشونة وهو مقطب الجبين: علام تضحك؟!