نفسه إليك ابتذالا ليصل بك رحمة، ويوثق آصرته؛ وإن يكن الله قد أغناك ان تنتفع به وبملكه ورعا وزهادة فما احوج أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتفعوا بك عنده، وان يكونوا أصهار (الوليد) فيستدفعوا شراً ما به عنهم غنى ويجتلبوا خيرا ما بهم غنى عنه؛ ولست تدري ما يكون من مصادر الأمور ومواردها. وإنك والله إن لججت في عنادك أصرت إن تردني إليه خائبا، لتهيجن قرم سيوف الشام إلى هذه اللحوم ولحمك يومئذ من أطيبها ولأمير المؤمنين تارتان: لين وشدة وأنا إليك رسول الأولى، فلا تجعلني رسول الثانية. . .
وكان أبو محمد يسمع هذا الكلام وكأنة لا يخلص إلى نفسه إلا بعد أن تتساقط معانيه في الأرض، هيبة منه وفرقاً من أقدامها عليه؛ وقد لان رسول عبد الملك في دهائه حتى ظن عند نفسه أنه ساغ من الرجل مساغ الماء العذب في الحلق الظامئ، واشتد في وعيه حتى ما يشك أنه قد سقاه ماء حميماً فقطع أمعاءه والرجل في كل ذلك من فوقه كالسماء فوق الأرض، لو تحول الناس جميعا كناسين يثيرون من غبار هذه على تلك لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت السماء ضاحكة صافية تتلألأ.
وقلب الرسول نظره في وجه الشيخ، فإذا هو هو ليس فه معنى رغبة ولا رهبة، كأن لم يجعل له الأرض ذهباً تحت قدميه في حالة، ولم يملأ الجو سيوفاً على رأسه في الحالة الأخرى؛ وأيقن أنه من الشيخ كالصبي الغر قد رأى الطائر في أعلى الشجرة فطمع فيه فجاء من تحتها يناديه: أن انزل إلى حتى آخذك والعب بك. . .
وعد قليل تكلم أبو محمد فقال:
(يا هذا، أما سمعت، وأما أنت فقد رأيت، وقد روينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقسه إلى هذه الدنيا كلها، فكم - رحمك الله - تكون قد قسمت لي من جناح البعوضة. . .؟ ولقد دعيت من قبل لي نيف وثلاثين ألفاً لأخذها فقلت: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم. وهأنذا اليوم أدعى إلى أضعافها وإلى المزيد معها؛ أفأقبض يدي عن جمرة، ثم أمدها لأملأها جمراً؟ لا والله ما رغب عبد الملك لابنه في ابنتي، ولكنه رجل من سياسته إلصاق الحاجة بالناس ليجعلها مقادة لهم فيصرفهم بها؛ وقد أعجزه أن أبايعه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى