رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من كثرة البكاء)!
ولم تكن تعبده رغبة في جنته ولا رهبة من ناره، وإنما كانت تعبده عبادة الذين يرون وجهه:(يا الهي، إذا كنت أعبدك خوف النار فأحرقني بنارك، أو طمعاً في الجنة فحرِّم علي جنتك، وإذا كنت لا أعبدك إلا من أجلك فلا تحرمني جمال وجهك). . . ويا له من حب ذلك الذي أذبل منها العيون وقرح الجفون، وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفدهُ الشوق، وحنيناً مضطرماً يلهب الوجد، وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع، وتسبح الدموع.
وما أروع العقاب حين يصل المحب من نفس حبيبه إلى المكان الذي يؤثره ويرضاه، هنالك ترفع الكلفة ويفسح الطريق ويتسع العفو الإلهي لكل مقال يقتضيه مقام، ولو كان اعتراضاً مهذباً أو غير مهذب في رأي الذين لا يشعرون. . . وإذا ما اعترضت رابعة على حكم القدر فلا تثريب عليها ولا جناح، لأنها في موقف النجوى التي يطلقها القلب المفعم بصدق الحب وحرارة الولاء، أو في لحظة الهوى العارم التي يخفت فيها صوت الشعور والوجدان؛ ولن يضيق حلم الخالق العظيم بصيحة تنبعث من فجاج روح كم قدمت إلى ربها صوراً فاتنة من أدب الخطاب، روح تلك الصوفية المؤمنة التي قال عنها مالك بن دينار:(أتيتها فإذا هي تقول: كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها. . . يا رب، أما كان لك عقوبة ولا أدب غير النار)؟!
لا يضيرني في رأيي من هذا العقاب الذي خطر لها يوماً أن تتوجه به إلى رحاب الخالق العظيم، لأنالعقوبة الكبرى في منطق رابعة العدوية ليست النار التي تحرق الأجساد حين يحال بينها وبين جنته، ولكنها النار التي تحرق القلوب حين يحال بينها وبين رضاه. . . وهذا هو الجحيم الذي كانت تتصوره في عالمها الفكري الذي طبع حبها بذلك الطابع الذي لا شبيه له ولا نظير.
ومع ذلك فقد ذهب بعض الغلاة إلى أن رابعة بهذا القول قد اجترأت على مقام الخالق العظيم. . . ولكنهم في غمرة هذا الغلو الحائر قد نسوا أن يذكروا هذه الحقيقة؛ وهي أن رابعة قد مكثت أربعين سنة لا ترفع رأسها حياءً من الله!!