وأشرق فيه نور السماء فترفع على رب التاج والصولجان. لقد كان الرجل سماوياً يعيش بين دقات النور الإلهي ينعم بأفراح الجنة وهي تتألق في قلبه ويسعد باللذة الروحانية وهي تتدفق بين جوانحه؛ فأعرض عن حديث الملك الغساني لأنه حديث أرضى فيه التراب والطين معاً.
يا للقلب الكبير! لقد تساقطت كلمات الكتاب على قلب الرجل شواظاً من نار فيه المهانة والاحتقار وفيه الرزء والبلاء، لأن رجلاً طوعت له نفسه أن يغمز إيمان كعب بن مالك وأن يعبث بعقيدته. وأحس كعب في كلمات الملك الغساني معاني السخرية الجامحة والامتهان المرير فنشر الكتاب أمامه - مرة أخرى - فبدت له كلماته تتلوى كأنها حيات توشك أن تنفث فيه سمومها فتعصف به فأصابه الذعر والفزع، فأنطلق إلى التنور يسجره بالصحيفة خشية أن يصيبه الأذى، ثم هام على وجهه أياماً يرسل الدمع في حسرة ولوعة لا ترقأ عبرته ولا تجف.
ومضى أربعون يوماً منذ أن جلس كعب أمام النبي (ص) يحدثه حديث الصدق والإخلاص والصراحة، ثم أرسل النبي (ص) رسوله خزيمة ابن ثابت إلى الرجل يأمره بأن يعتزل امرأته فما تلبث ولا تعوق ولا جادل. ولكنه أحس العنت والبلاء، هذه - ولا ريب - قاصمة الظهر، إن الرسول (ص) لا يأمر الرجل بأن يعتزل زوجته إلا أن يكون كافراً وهي مسلمة، وشمل الرجل حزن عميق حين رأى النبي (ص) يوشك أن ينزع عنه حلة الإيمان ليجلله العار والضعة، فاستسلم إلى البكاء عسى أن يكفر عن ذنبه أو ينفس عن أشجانه.
وقسا الرجل على نفسه - مرة أخرى - فابتنى خيمة على ظهر جبل سلع يخلو فيها إلى نفسه وإلى همومه، ويقضي هناك عمره يبتغي التوبة مما فرط منه، وقد ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
وصلى كعب صلاة الفجر صباح خمسين ليلة في خيمته التي ابتنى فما فرغ من الصلاة حتى سمع صوت صارخ أوفىعلى سلع ينادي بأعلى صوته يا كعب بن مالك: بشر، فخر الرجل ساجداً حين تبين له أن قد جاء فرج من الله. . . خر ساجداً والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً. وجاء البشير فكساه كعب ثوبيه ببشارته، وهو - إذ ذاك - لا يملك