الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني، والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك). قال رسول الله (ص)(أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك).
ورأى رجال من بني سلمة ما كان فثاروا واتبعوا الرجل يؤنبونه على ما كان منه، وحاولوا أن يرغموه على أن يرجع إلى النبي (ص) فيعتذر إليه بما اعتذر به إليه المتخلفون غير أن إيمان الرجل دفعه عن أن يتردى في الهاوية مرة أخرى، فمضى. . .
ونهى النبي (ص) عن كلام كعب بن مالك - وعن كلام رجلين آخرين لقيا مثل ما لقي كعب، هما: مرارة بن ربيعة وهلال ابن أمية - فخاصم الناس الرجل وتغيروا له، فأحس كأن في نظراتهم سهاماً من المقت والكراهية تتناوشه كلما مر بهم وكأن الأرض وقد تنكرت له حين عافه الأهل واجتنبه الرفيق فما هي بالأرض التي عرف. وكان كعب شاباً فتياً فما قعد ولا استكان، فراح يشهد الصلاة في مكابرة ويطوف بالأسواق في إصرار، ولكن واحداً من المسلمين لم يكلمه؛ ثم يأتي مجلس رسول الله (ص) فيسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فما يظفر منه برد السلام.
وطالت عليه جفوة المسلمين فأحس مس الضيق في قلبه، فأنطلق إلى دار أبى قتادة، وهو ابن عمه وأحب الناس إليه، فتسور عليه جداره وسلم عليه فما رد السلام، فقال له يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟) فسكت. فعاد فناشده، فسكت. فعاد فناشده، فقال له (الله ورسوله أعلم!) ففاضت عينا الرجل وتولى يضرب في الأرض وقد أمضه الحزن وأرهقه الأسى، يتخبط في ظلمات من الضيق والألم، فما راعه إلا نبطي من الشام يدفع إليه كتاباً في سرقة من حرير من ملك غسان يقول فيه (أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
لقد قرأ كعب كتاب الملك فما وسوست له نفسه بريبة، ولا اختلج قلبه بشك، ولا خطفه بريق الأمل ولا سيطرت عليه روعة السلطان. هذا القلب أفعمه الإيمان الحق فسما بالرجل على النوازع الأرضية، وغمرته العقيدة الصادقة فسخر من بهرج الحياة وزيف الدنيا،