بعد هذا تنتقل إلى ظلال الأداء النفسي منعكسة على الألفاظ ولا أريد أن اقف بك طويلا عند الصور الوصفية المتناثرة هنا وهناك، حسبي أن أشير إليها إشارات عابرة، وحسبك أن ترجع إلى الفصول النقدية السابقة لتقوم بعملية التطبيق. . . أمامك هذه (الظلة التي تداعبها أنفاس الليل)، ثم هذه (الصور المتحركات التي تركت مكانها من الأطر) ثم هذه (الغريرة الحوراء التي تحنو على شفتي باخوس بالكاس)، ثم هؤلاء الفتيان (الذين يتوهجون صبابة وصبا) في موكب فينوس. وعندما تبلغ أول بيت من المقطوعة الثالثة ستصدمك هذه الصورة:
يمر الثياب تخال أنهمو ... يفدون من حانون قصاب
إنها الصدمة الوحيدة في القصيدة، ومعذرة إذا قلت لك إن الشاعر هنا قد خانه التوفيق، وليس هناك ما يصدم ناقد الشعر مثل ضعف الرؤية الشعرية وبخاصة إذاجاء هذا الضعف من شاعر يبلغ الأوج في قوة هذه الرؤية في كثير من شعرة وهو علي طه. . . ترى هل أمكنك أن تنفذ إلى موقع الضعف في هذه الرؤية الشعرية؟ إنه في تلك الصلة الواهية بين حمرة الثياب وبين حانوت القصاب، لأن واقع الحياة يؤكد لك أن حوانيت القصابين لا تلطخ ثياب الوافدين منها بقطرات من الدم ينتقل فيها اللون من حال إلى حال!
ونمضي في عرض صور الأداء النفسي الممتاز فتقدم إليك (هذا الهمس المنغم الذي يسري على رنات الأكواب)، ثم هؤلاء الشعراء الذين كأنهم (أنصاف آلهة لولا دخان التبغ)، ثم هذه (الحلق المرسلة من شعرهم وكأنها قطع من الحلك). . . هنا تنبع الرؤية الشعرية من أعماق الحركة الواعية، لأن الشاعر لم يغفل عن السمات المعروفة لطريقة إرسال الشعر على هيئة حلقات عند شعراء الإغريق ما دام دفع بالملكة التخيلية إلى جو الأسطورة الإغريقية. ثم هذه الإشارة الطريفة في هذا (الغليون الذي يستشرف الأفق ويكاد يحرق قبة الفلك)؛ إنها إشارة إلى خيلاء الشاعر ممثلة في تصوير الحركة المادية التي تنم عن الشموخ والاستعلاء! ثم هذه الصور الوصفية الثلاث في الأبيات الثلاثة التالية، إنها لمسات موفقة تبرز لك أحوال الشعراء عندما يهبط عليهم الوحي، في رأي خمار مخمور!
وفي المقطوعة الرابعة تروعك هاتان التحليقتان من تحليقات الخيال: