نعم لقد تعمد أن يجمع بين السمراء والبيضاء أو بين ساكنة الأرضو ساكنة السماء وتدخل الزنجية الراقصة إلى الحانة ثم تلقي بغلالها لترقص أمام أهل الفن ويقبلون عليها في حركة تنم على العجب والإعجاب وتضج الحانة برنين الكؤوس وترتفع الأصوات بالغناء وتحتج (فينوس) وهي تمد بكأس يضطرم فيها الحب اضطرام قلبها الثائر وشعورها المهتاج. أهل الفن يشغلون عن ربة الجمال والدلال والسحر، بهذه الزنجية ذات القوام الداكن والبشرة القاتمة؟؟ ياضيعة الفن عند قوم من السكارى لا يميزون وهذه هي اللفتة الأولى مصورة في هذه الأبيات.
هي رقصة وكأنها حلم ... وإذا بفينوس تمديدا
الكأس فيها وهي تضطرم ... قلب يهز نداؤه الأبدا.
زنجية في الفن تحتكم ... قد ضاع فن الخالدين سدى!
وتبتسم السمراء ابتسامة تحمل ألف معنى إلى (فينوس)
ثم تهتف في ثقة واعتداد:
فأجابت السمراء تبتسم ... الفن روحا كان أم جسدا؟
ياأيها الشعراء ويحكم ... الليل ولى والنهار بدا!
وهذه هي اللفتة الثانية. . . وهاتين اللفتتين الرائعتين يقيم علي طه المعبرين الكبيرين للرمزية النفسية أو الرمزية الموضوعية! ترى هل أدركت المعنى العام الذي يرمز إليه الشاعر في هذه الكلمات؟ لقد أراد هنا أن يعرض لك عن طريق الرمز قصة النزاع الخالد أو قصة الخصومة الخالدة بين أرستقراطية الفن وديمقراطية الفن فأتى (بفينوس) لتمثل النزعة الأولى وأتى بالزنجية الراقصة لتمثل النزعة الثانية، ثم انطق هذه برأي في حقيقة الفن وانطق تلك برأي آخر، ليطلعك على مدى التفاوت بين نظرتين. نظرة الأرستقراطيين إلى الفن ونظرة الديمقراطيين إليه! أو نظرة تلك الفئة المترفعة التي تريد للفن أن يعتصم بالأبراج العاجية ونظرة هذه الفئة المتواضعة التي تريد له أن يأوي إلى الأبراج الخشبية ليكون قريباً من الناس. . . وهي طريقة يبلغ فيها التوفيق مداه حين يصرخ الشاعر على لسان الزنجية الراقصة: ليس الفن جسدا يلتصق بالأرض ولكنه روح توزن بما فيها من صفاء!!