ألوان. . . هنا في مثل هذه الخريطة (ألوان مادية) تومئ أو ترمز للجبال والوديان والأنهار؛ وهناك في مثل تلك الرمزية (ألوان نفسية) تومئ هي الأخرى أو ترمز للظواهر والخواطر والمدركات.
بعد هذا نستطيع أن نطبق المقدمة التحليلية تطبيقاً نقديا على (جانة الشعراء) في غير جهد ولا عناء. إنك لن تصادف لفظاً واحدا يرهقك بطول الجري وراء معناه، ولكنها الألفاظ العادية تسير في مجراها الطبيعي وتمضي في طريقها المرسوم، دون إن تحوجك إلى السؤال تلو السؤال: ماذا يقصد الشاعر، وإلى أي معنى يهدف، والى أي وجهة نفسية يطلق لفكره العنان! ولن تصادف صورة واحدة تكدح ذهنك في سبيل الربط بين أجزائها المتناثرة أو التنسيق بين ظلالها المتداخلة وأضوائها المتشابكة ولكنها الصور المنتظمة الواضحة التي تخلو من انحراف اللقطة والتواء التعبير وشطح الخيال، إنك لن تصادف غير شئ واحد هو أن القصيدة في بنائها العام قد رمز بها إلى معنى عام معنى مهد له الشاعر بالأسس التخيلية في المقطوعات الأولى ليقيم الطابق الأخير في المقطوعة الأخيرة، وهو الطابق الذي تصعد إليه الرمزية النفسية في آخر خطوة من خطواتها لتستقر فيه!
هذه الأسس التخيلية هي (الحانة) في المقطوعة الأولى ثم (باخوس) إله الخمر في الأساطير الإغريقية القديمة، ثم (فينوس) في المقطوعة الثانية وهي إلهة الجمال في الأساطير الإغريقية أيضاً ثم جماعة (الشعراء) في المقطوعة الثالثة، ثم تلك (الراقصة السمراء) في المقطوعة الرابعة. وسترى أن الشاعر قد أخضع الملكة التخيلية لجو الأسطورة الإغريقية بالذات ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق غرضين رئيسين هما على التحقيق دعامتا الرمزية الموضوعية. أو لهما هو أن يتخذ من هذه الأسس التخيلية الأربعة في مجال واحد، وثانيهما هو أن يتخذ من هذه الأسس معابره إلى الهدف الاخير، ونعني به المعنى الذي رمز إليه بموضوع القصيدة. لقد تمثل علي طه أول ما تمثل مشهد الحانة، ثم تخيل أن يكون صاحبها هو (باخوس) ليخلق نوعا من الصلة الإيجابية بين مكان الخمر وإله الخمر، ثم تخير أن يأتي بجماعة الشعراء ليوجد نوعا آخر من الصلة الإيجابية بين الفن وأصحاب الفن، ثم تعمد أن يجمع بين (فينوس) ربة الجمال وبين الزنجية الراقصة لينشئ نوعا من الصلة العكسية أو السلبية بين مقام الآلهة ومقام البشر!