للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يدور بخلدي. وهل أنت راض عني يا إلهي؟ هذا ما أتوق إلى معرفته) وما كادت تتم نجواها هذه حتى سمعت هاتفاً من وراء الغيب يتساقط في أذنيها هذه العبارة: لك يارابعة عند الله مرتبة تغبطك الملائكة من اجلها) فشاع في نفسها السرور، وانتشت من فرط الطرب فقفلت راجعة إلى بيت سيدها والأحلام السماوية تداعب أوتار قلبها بأناملها السحرية.

وفي ذات مرة أرق سيدها فسمع في جوف الليل صوتاً راعشاً اكسب الدار جواً مهيباً رائعا فاهتز له قلبه. وطفق يبحث عن مصدره، وكم كان عجبه شديداً عندما اطل من ثقب الباب فرأى رابعة تصلي بحرارة وإخلاص بالغين؛ وبصوت عميق معبر سمعها تقول: (ربي إنك تعلم أن اشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية مالك من حقوق؛ ولكنني أسيرة لا املك حريتي الشخصية، فلا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية فلتعذرني يا إلهي؛ وعلى أثر ذلك دبت الحمية في صدر الرجل. وفي اليوم التالي أعتقها فكادت تترقص من عظم السرور. وأقامت وحدها في منزل متواضع وقامت بأود نفسها من كسب يدها فعملت بالحديث النبوي الشريف: (لا تكونوا كلا على الناس).

ومما لا شك فيه أن شاعرتنا كانت ملمة بمبادئ القراءة والكتابة وهي بعد عند مولاها فلما أن حصلت على حريتها نمت هذه المبادئ ورعرعتها.

وكأننا بها وهي متنقلة بين مساجد البصرة العلمية الزاهرة تنهل من موردها العذب وتعل من نميرها السلسال فلا تمضي مدة طويلة حتى تغدو عالمة العصر وأديبة الجيل.

وقد كانت على فقرها محببة إلى القلوب يجلها أكابر العلماء ويستفتونها في دقائق التصوف والفقه ويتناقشون معها ويناظرونها فيصبح بيتها على حقارته محاجة المتصوفين وقبلة العلماء والفضلاء فيدعونها عن جدارة واستحقاق بتاج الرجال. ولقد كان بينها وبين بعضهم صداقة متينة حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الصبر عن لقائها فيقول: (مروا بنا إلى المؤدبة فإنني لا أجد من استريح إليه إذا فارقتها).

وسئلت يوماً: (أتحبين الله كثيراُ؟) فقالت: (بلا ريب) فقيل لها: ألا تعدين الشيطان عدواً لك؟ فقالت: (إن محبة الله قد ملأت أرجاء قلبي فليس فيه متسع إلى القلق والاضطراب من عداوة الشيطان).

<<  <  ج:
ص:  >  >>