ومن وصاياها:(اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم) وكانت تقول: (محب الله لا يسكن حنينه وأنينه حتى يسكن مع محبوبة). وحقاً لقد كانت رابعة هكذا بكاءة لا تنقطع لها عبرة حتى أن موضع سجودها كان كهيئة المستنقع من دموعها. وتحدثنا الرواية أن كان يغشى عليها لمجرد ذكر النار.
كانت ذات إرادة حديدية بالية؛ أهانت الدنيا واحتقرتها، وأرادت الحرمان وفضلته، وأحبت الوحدة وتعشقتها.
كانت تنام على حصيرة بالية؛ وكان موضع الوسادة قطعة الآجر، وكانت تشرب من إناء مكسور وتطوي ليلها تصلي لله وتناجيه حتى إذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة ولكنها ما كانت تلبث غير قليل حتى تعب من مرقدها فزعة تغلب النعاس وتتحدى النوم قائلة:(يا نفس كم ذا تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور). كان من عادتها أن تصوم سبعة أيام وتنقطع إلى العبادة والزهد ليالي لا تفتر أثنأها عن مناجاة النفس بهذا الخطاب (إلى متى تعذبين نفسك يا رابعة وتحملينها مشقة وهي مشقة ليس بعدها مشقة!) وهي في ذلك ذات مرة إذا برجل يدق عليها الباب وفي يده صحن من الطعام يتركه لدينها ثم ينصرف. أما هي فتأخذ الصحن وتضعه في زاوية من الغرفة وتتشغل بإصلاح القنديل. وإنها لذلك إذا بهزة تدخل فتأكل الطعام الذي في الصحن. وطالما تعود رابعة فترى الصحن خاوياً فتقول في نفسها:(لا بأس. أفطر على الماء) ولكنها عندما تذهب لتعود بالماء ينطفئ القنديل فلا تطيق احتمالاً وتقول: (اللهم لهم هذا العذاب)؟ فتسمع هاتفاً يقول:(لو شئت يا رابعة وهبنا لك جميع. ما في الدنيا ومحونا ما في قلبك من ثار العشق لأن قلبنا مشغولاً بحب الله لا يشغل بحب الدنيا) فتذرف رابعة دموع الندم وتعزم على ألا تعود للتذمر مما هي فيه.
والجميل الطريف في رابعة أن زهدها ما كان عجزاً منها عن اللذات وقصر باع في نيل الغنى فقد خطبها كثير من الأغنياء والفضلاء منهم الحسن البصري المشهور أمره فردته كما ردت غيره وبعثت إليه بهذه الأبيات:
راحتي يا اخوتي في خلوتي ... وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً ... وهواه في البرايا محنتي