الغاية الثانية غاية أبعد وهكذا. ويردد أرسطو هنا ما سبق أن قال به في برهان وجود الله (العلة الأولى) من أن هذا التسلسل في الغائبة. . . كما كان في العلية. . . لا يمكن أن يكون إلى غير نهاية بل لابد أن يقف عند حد يكون هو العلة الأولى أو علة العلل التي ليس وراءها علة، والخير الأسمى الذي ليس بعده خير، والذي هو موضوع جميع الآمال على اختلاف مذاهبها إليه.
فمن الغايات إذن ما هو جزئي وما هو كلي، كما أن من العلوم التي تدرس هذه الفايات ما هو جزئي وما هو كلي. وإذا كان الخير غاية العلوم العملية على النحو الذي بينت في تقسيم العلوم عند أرسطو في المقال السابق، فيكون من الخير إذن ما هو جزئي وما هو كلي. الجزئي هو الأخص الذي يتعلق بالفروع - والكلي هو الأسمى الذي يتعلق بالأصل. وهو عند أرسطو علم السياسة الذي يتعلق بتدبير أمر الدولة أو المدينة (واسمها في اليونانية وإذا تذكرتم الملحوظة الثالثة التي ذكرت لكم في التعليق على لوحة العلوم الأرسطية في المقال السابق الخاصة بتدرج العلوم العملية في أهميتها نحو الكثرة، سهل عليكم أن تدفعوا ببطلان اعتراض المترجم الفرنسي (الفقرة التاسعة ص ٧١، هامش) على أرسطو في جعل علم السياسة قمة العلوم العملية. فلما كان الفرد وحدة المجتمع، والخلية الأولى في تكوينه، وكان البحث في خيره وسعادته يجب ألا يتعارض مع بحث خير الدولة وسعادتها، فقد رأى أرسطو يحق أن يخضع الأخلاق (علم تدبير الفرد) والتدبير المنزلي (تدبير الأسرة) لعلم السياسة (تدبير الدولة) حتى يكون للمجموع الهيمنة على الفرد فلا يدعه ينشد سعادته ولذاته أينما شاء ومهما تعارض مع سعادة الآخرين، وفي ذلك الفوضى والاضطراب خصوصاً وأن ما يراه هذا العلم خيراً على الجماعة فإنه يفرضه على كل أفراد هذه الجماعة باسم القانون أو العرب أو التقاليد التي يستحق من يحيد عنها جزاء من جنس عمله. ومتى كان القانون الخلقي يكفي وحده لضبط سلوك الأفراد. . . وليس للضمير سلطان على الكثير منهم - إلا أن يظاهره القانون الوضعي (أو المدني)، والقانون السماوي (أو الدين)؟ إن الفرد في نظر أرسطو حيوان اجتماعي لا وجود له منعزلا. وهي وجهة نظر الاجتماعيين وبعض علماء النفس المحدثين.
وإذ وضح أن الخير الحقيقي الأسمى للإنسان هو موضوع الأخلاق التي هي فرع من علم