ولكنك على اختلاف هذه الميادين والأفاق والأجواء، لن تصادف صورة واحدة تنقصها دقة المطابقة بين ما هو ماثل أمام العين وما هو كامن داخل النفس، أو بين ما هو معروض على الحواس وما هو مختزن في الشعور. فالراقصة التي تضم الوشاح، ثم تلقي به، ثم تخطو تلك الخطوات المعتزلة المختالة، تقابلها نسخة أخرى مستخرجة من أعماق الذاكرة المختزنة لكثير من صور الحياة، وهي تلك الفارسة التي تحتضن السيف، ثم تلقي به بعد الإياب من جولة المجد في حومة النضال. وهذه الراقصة نفسها حين تمد يديها إلى الأمام، ثم تثنيهما إلى الخلف، ثم ترتد بجسمها في عوج واعتدال؛ تبدو في مرآة الشعر التي تنعكس على صفحتها الرؤى المماثلة والأطياف المشابهة، كما تبدو تلك الحورية الواقفة أمام نبع تلقي فيه بالدلاء - وهذه هي حركة اليدين الممدوتين - حتى إذا امتلأت تلك الدلاء راحت تجذب الحبل المدلى لترفعها إلى الخارج - وهذه هي حركة الدين الجاذبتين - ينثني جسمها ويعتدل تبعاً لحركة الانحناء وحركة الاستواء!. . . وطبق أنت بقية الصور المرئية على بقية الصور المتخيلة في الأبيات التالية؛ هناك حيث (تلقاها محيرة الطيف في مائج من النور أشبه بفراشة روض جفتها الظلال) أو أشبه بتلك (الزنبقة التي تتوسط قطعة من البلور تعكس أضواء الشفق الأرجواني عند مغيب الشمس) ولا تنس تلك (المتنقلة كالحلم بين الجفون أو كالبرق بين رؤوس الجبال)، ولا تسرع عند طوافك بمعرض هذه الصور الأربع، لأنه معرض منقطع النظر:
على إصبعي قدم ألهمت ... هبوب الصبا وثوب الغزال
وتجري ذراعين منسابين ... كفرعين من جدول في انثيال
كأنهما حولها ترسمان ... تقاطيع جسم فريد المثال
أبت أن تمساه بالراحتين ... وبرضى الهوى وبريد الجمال!
أرأيت إلى هذه القدم التي (ألهمت) هبوب الصبا في الحركة البطيئة الناعمة، ووثوب الغزال في الحركة السريعة النافرة؟! وتتلوى الراقصة وتسهو، وتعلو وتهبط، وتعدو وتزحف، وتسقط وتنهض، ومن وراء هذا كله تقف العدسة النادرة لتلتقط، وتقف الذات الشاعرة لتمثل: وإذا الصورة الأولى تقابلها (اللهابة المتراقصة قبل فناء الذبال)، وإذا الصورة الثانية يقابلها (الشراع المتأرجح بين الجنوب والشمال)، وإذا الصورة الثالثة تقابلها