شيء تأخذه لنفسك لا لغيرك، وتحتفظ به لك وحدك ولا تعرضه على سواك. وكثيراً ما يبيت سراً من أسرارك تجتره في ضميرك وتدفعه في وجدانك ويمنعك الحياء من أن تبوح به للآخرين، فإذا ناجيت به خلاً حميماً فلأنك تجد في هذا الخل مرآتك أو بقيتك، أي أن حزنك لا يخرج عن نطاقك الخاص على كل حال. ومن هنا قلنا إن الحزن اتجاه إلى الداخل بمعنى أنه شعور داخلي، باطني، خاص لا تكلف فيه ولا عناية، ويكون في أنقى حالاته عند المنطوي على نفسه، والضحك واتجاه إلى الخارج بمعنى أنه تهريج مع الناس، وانبساط هو ضد الانطواء لفظاً ومعنى، وسخرية ترمي أهدافاً قريبة أو بعيدة، وتكلف اجتماعي ميدانه العالم الخارجي قبل كل شيء.
وقد كان ألفونس دوديه رجلاً رقيق الشعور عميق التأثر، لا يفصل الأدب لحظوة عن الحياة (راجع العدد ٨٤٦ من الرسالة: الشاعر في الشارع).
كان في أدبه كما كان في حياته، قيثارة مرهفة الأوتار. ها هو ذا، تهز نفسه مأساة صغيرة أو كبيرة، فيأتي إلينا والدمع يجول في أجفانه، ويفتح لنا قلبه يناجينا بها مناجاة إلف صادق، ثم يحس عبراته تنسجم كلما أفاض في قصته، فينظر حوله بمقلتيه البليلتين، ويرنا متأثرين، فيفيق، ويغمره لون من الحياء، ويكاد يخجل ويندم، ولكي يستر ضعفه يبادر إلى إلقاء نكتة سريعة والابتسام لها. . . على أن هذا كله يتم في لحظة قصيرة، فيلتقي الحزن والمرح في عبارة واحدة، وتمتزج الدمعة والابتسامة في حديثه دائماً.
هذه الفكاهة الخفيفة اللاذعة في أدب دوديه هي قناع الحنان وستار الإحسان، لأن كاتبنا الساحر حبي، يتجنب أن يستمطر مآقي جلسائه أنهار الدمع إعلاناً عن رحمته بالأشقياء وبره بالبائسين. أنه يكره التكلف والإسراف. وقد أغرق أتباع روسو فجر القرن التاسع عشر في سيل من الدموع، وأصبح الكاتب لا يبكي إلا ضماناً لرواج كتابه، والممثل لا ينتحب إلا استغلالاً لمشاعر النظارة، حتى لقد نفر الفرنسيون منذ ضحى القرن التاسع عشر من إظهار العاطفة وأمسوا يعتبرون البكاء نفاقاً والعويل أضحوكة واستدرار الدمع فناً بالياً مبتذلاً. لهذا كانت لابتسامة دودية قيمة الوقاية من وباء. وهي وقاية طبيعية تشهرها السجية الخالصة ويشهرها الحياء الجم في وجه التكلف البغيض. بل إن شعشعة الحزن بشيء من المرح فن عميق، بعيد المرمى، خليق بأن يمد من تردد الحزن في نفس القارئ،