إذ يتركه مختلجاً بالتأثر بدلاً من أن يذيبه حسرات ويسحقه بالكمد.
وهذا هو الفرق بين حزن دوديه وحزن معاصريه من أدباء المدرسة الطبيعية المادية - أمثال إميل زولا. فهؤلاء يستنبطون مشاهد عنيفة، ويصفون آلاما قاسية، ويفعموننا ما استطاعوا بشعور بارد كثيف من التشاؤم الأسود الحالك. نقرأ قصصهم فتؤزنا وتثيرنا، وتظل تقيمنا وتقعدنا، حتى ترهقنا بالألم والثورة، وتكتم أنفاسنا في آخر الأمر تحت كلكل القدر الغشوم الذي يذهب البطل ضحيته. على أننا لا نكاد نرثى للبطل ولا نكاد نشفق على أصحابه، فهم قوم جبابرة ملاعين، كأنهم قُدوا من صخر، وكأنهم خلقوا للعذاب، وإنما تروعنا بشاعة البؤس، وتفزعنا رهبة المصير، فننسى الأشخاص جميعاً، ونفكر فيما ورائهم، وتنتهي أفكارنا إلى سخط على الحياة وحقد على القدر ويأس وقنوط. ولا كذلك عاطفة دوديه؛ فإنها نقيض هذا الشعور الجائع الناقم الممض. إنها نزعة مستبشرة إلى الخير، إنها نظرة عين وامقة تفتقد الصغار وترفق بهم، إنها إخاء وحنان، إنها أحضان رحيبة مفتوحة، عزاء للبائسين والمساكين، بكاء معهم وابتسام لهم. فليس يحرك عطفنا إلا شقاء يحيق برجل شبيه بنا، نستطيع أن نتعرف فيه أنفسنا دون أن ننفر من موقفنا وسلوكنا إذا قمنا مقامه، ويشتد عطفنا وتزداد شفقتنا حين يعبر عن هذا الشقاء رجل شبيه بنا يحس الإحساس ويحسن التعبير عما يحس، باللفظ أو الإيماء أو الصمت. ويا لمناهل الشعور الإنساني الكريم التي تتدفق في أقاصيص دوديه! بيد أن دوديه يعرف كيف يشجينا دون أن يجلل الحياة أمامنا بالسواد والشؤم واللعنة. أنه غني عن المشاهد العنيفة والمواقف المثيرة. وأين حياتنا التي نحياها من تلك النوازل الهائلة التي لا تبقي ولا تذر؟ وأما هذه التوافه التي يهملها الكبار والمتكبرون، والتي تعج بها أيامنا وليالينا، فهي بعينها ما يلتمسه دوديه وما يعني بتقديمه لنا (راجع العدد ٨٠٩ من الرسالة: الشيء الصغير).
أمن دمع هذا الكاتب تنبع ابتسامته؟ فإن ابتسامته بدورها لا تغيض ليست سخرية دوديه بالشائكة ولا الحادة ولا الخبيثة ولا المريرة. ليس كسخرية لابروبير أو فولتير أو أناتول فرانس. ولا هي هزل أجوف عماده بديع اللغة والتلاعب بالألفاظ، وإنما هي تهكم حي، عذب، خصب، ينالى المعاني والمواقف والأشخاص. بل إننا نبالغ في إطلاق كلمة السخرية على فكاهة دوديه، إنها مزاح برئ، ميل إلى العبث من طفل كبير يلمح عيباً في بعض