للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الناس أو ضعفاً في بعض النفوس فيضحك فمه ملء فيه ويضحكنا معه، ولكن هذا الطفل الكبير يرى في نفس الوقت وراء الكلمة أو الحركة التي كشفت له ذلك العيب المضحك أو ذلك الضعف المضحك وجه إنسان دائما، وجه أخ مسكين ألمه من آلامنا وبؤسه من بؤسنا ومصيره كمصيرنا، ومن هنا تجتمع الدمعة والابتسامة في وجه الفونس دوديه، وتأتلقان، ولا تفترقان قط، وهل حياتنا إلا مزاج متصل من هذه وتلك؟

ولقد سأل ليون دوديه أباه ذات يوم عن سر قدرته وبراعته في ولوج قلوب الآخرين والتعبير عنها، فأجابه إجابة ضافية، قال: (لست يا ولدي ميتاً فيزيقيا كما تعلم، ولكن يبدو لي، من خلال جميع المذاهب، أن الفلسفة وإن كانت نافذة النظر في مشاكل العقل والفكر والذكاء، إلا أنها أولية بدائية قاصرة في كل ما يتصل بالشعور.

مازال الشعور يا بنيّ عالماً غامضاً مجهولاً مليئاً بالهوَّات السحيقة. ألم يكن كل مجهود ديكارت وسبينوزا مجرد محاولة إرجاع الشعور إلى العقل، والتماس حلول منطقية جافة للمسائل العاطفية.

أما أنا فليس لي إلا خبرتي، تدعمها بعض الأحلام. بيد أن خبرة شخص واحد هي خبرة الناس جميعاً، ما دمنا أفراداً يمتاز كل منا عن صاحبه بنظم دقيق خاص من ملكات عامة.

والشعور الإنساني يبدو لي ضرباً من محيط دائرة، كل عنصر فيه إنما هو صورة مختصرة للمجموع، وما الرحمة الفردية والألم الفردي والإحسان الفردي إلا انعكاس للرحمة الجامعة والألم الجامع والإحسان الجامع. . .

إن علينا نحن القصاصين واجبات وأوزاراً: علينا أن نشرك الناس دائماً في شعور واحد، وأن نرمي بكل ما نملك من جهد إلى غاية مثالية هي حفز دوافع الخير والكرم في النفوس، وعطف هذه النفوس بعضها على بعض، وتوجيهها وجهة سامية تكون قبلة الجميع وملتقى إرادتهم. وعلينا نحن القصاصين يقع وزر ما ننشر من شر ومن قبح سواء صدرنا في ذلك عن إهمال أو قضينا به حاجة وأصبنا رزقا. وعلينا يقع أيضاً وزر القعود عن إسداء العون، وترك الضعاف للفشل واليأس، وازدياد آلام الإنسانية وخبثها. . .)

وتلك لعمري فلسفة الشعور التي تزري بالفلسفة. فلسفة صادقة ساذجة نزيهة، فلسفة الإنسانية الصريحة التي تأبى أن يخنقها المنطق والتحذلق، وتحيا قريرة في النفوس

<<  <  ج:
ص:  >  >>