للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العاطفة، ولسنا نعزو هذا إلى نقص طبيعي في الإحساس، ونضوب معين العاطفة في الشرقيين؛ إنما نعزوه متأكدين إلى نقص في التربية وتقصير في التوجيه. فمدارسنا قلما تعنى بتنبيه مواطن الإحساس بالجمال الصغار، وإذا فعلت ففي صورة سطحية ميكانيكية، وهو تقصير يدفع الشرقيون؛ اليوم ثمنه غالياً - يدفعون ثمنه ضعفاً في الوطنية، وجموداً عن التضحية. وهل ترجو خيراً ممن لا يرى في جبال بلاده ولا في سهولها، ولا في حزونها ولا في أنهارها، ولا في ينأ بيعها ولا في أشجارها، ولا في أطيارها، ولا في سمائها، ولا في مائها سحراً ولا فتنة يربطانه بها بعرى من الشوق والهيام لا تنفصم ولا نهى؟؟ هذا الأوربي إجمالاً، والإنكليزى على التخصيص، أنظر كيف ينقل ذكرى جباله وأنهاره، وقراه ودساكره، ووديانه وينأ بيعه ومدنه إلى أمريكا وأفريقيا وأستراليا وغيرها من قارات العالم؛ لم يستطيعوا أن ينقلوا هذه الأشياء العزيزة عليهم بالذات فتقلوا ذكراها المحبة، فظلت تربطهم بها رابطة من الشوق والهيام يؤكدها التذكير ويديمها النوى.

ولنعد إلى فتاتنا. فقد شاقني حقاً أن أتابع هذه الدراما الصغيرة إلى النهاية، أبت الفتاة إلا تطلعاً وإسرافاً في التطلع، برغم نصائح زوجها الغالية، فكأن حديثها السابق قد أذكى شعورها وفتح لها أفقاً أوسع للتفطن والاستشراف، وقد آلمني حقا ًأمر هذه الفتاة. فهي تشعر شعوراً عميقاً بهذا الجمال الغزير وتأبى إلا أن تشرك غيرها معها في هذا الشعور، وهي نزعة طبيعية ملحوظة في جميع الناس. فليس أحد يشعر بجمال الفن سواء أكان طبيعياً أم صناعياً. إلا يرغب أن يرى من يساهمه فيه الإحساس ويشاطره المتعة، ولعل المتع الفن هي المتع الوحيدة التي لا يحس بها ارهف الإحساس واحده، إلا إذا كان من يشاركه. فكان كثرة النازرين أو السامعين لآيات الفن، المرايا تتقابل خجول الصورة الأشباح وتزيد الصور.

ويئس صاحبنا من صرف الفتاة عما تريد من النظر التلفت، فراح يتلهى بالصغيرين ويناغيهما، وانتهى به الحديث معهما والمناغاة إلى صيغته بعينها جعلها لازمة حيثه وهي: يا بابا صباح الخير يا بابا وراح يرددها ويدهورها في حنجرته طوال الطريق. وخيل إلى أن الرجل لن يكف عن ترديدها ولو أمسى المساء، وضاقت به الزوجة الوديعة ذرعاً (وللصبر حد) وطلبت إليه متوسلة ان يكف عن الحديث، أو يغير هذه العبارة التي يوشك

<<  <  ج:
ص:  >  >>