للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

انطوى الليل إلا أقله وأنا في شرفة الدار يضطرّب خيالي بصورة أبي الباكي الحزين، وغلى جانبي زوجتي الحبيبة أبسم لها في ذهول وأعانقها في فتور؛ لا أكاد أسمع صدحات الموسيقى وهي ترن في أرجاء المكان فتعمه بالنشوة والمرح، ولا أطرب للصوت الملائكي الرقيق وهو يشدو بأغنية سماوية تهتز لها القلوب وتضطرب الأفئدة، ولا أشعر بالهوى العليل وهو يرف حوالينا ندياً يبعث في الناس النشاط والقوة، ولا أكاد أحس بالسعادة التي كان يصبوا إليها قلبي منذ زمان بعيد وهي الآن بين يدي لا تدفعني إليها نزعات الهوى ولا تجذبني إليها نزوات الشباب.

وأحر كبدي إن صورة أبي ما تبرح تتشبث بخيالي. . . صورة أبي وهو يتوارى في ناحية من المكان وعلى وجهه غلالة من الهم والضيق وفي محجريه عبرات حائرة لا يستطيع أن يكفكفها فتنفلت من بينهما غضباً.

ورأيت أبي لأول مرة في حياتي - حزيناً يطحنه الأسى ويضنيه الكمد، ولأول مرة في حياتي أحسست بالهم العارم يتدفق في قلبي ليعصف بمرحي. . . مرح الشباب العابث الطروب.

واعجباً! أفكان أبي الشيخ يرى بعيني تجاربه أن من تحت قدمي هاوية سحيقة أوشك أن أنزلق فأتدرى فيها فلا يمسكني إلا القرار.

وفي بكرة النهار أسرعت إلى أبي عسى أن أستجلي بعض خلجات ضميره، غير أني علمت أنه برح الدار عند صلاة الفجر إلى. . . إلى القرية، فانكفأت إلى حجرتي. . .

وتعاقبت الأيام تطوى وساوس نفسي وتمحو ظنون روحي وغلى جانبي زوجتي تنفذ إلى طوايا قلبي في رفه، وتمهد لي أسباب السكينة بعقل سليم وترعى حاجات داري بيد صناع. واطمأنت خواطري إليها أجد فيها مثابة وأمناً واستشعر في كنفها الراحة والهدوء، غير أنها لم تستطع - يوماً - أن تكشف عن الصورة التي تشبثت بخيالي حيناً من الدهر. . . صورة أبي الباكي الحزين.

ومرت سنتات ثم أشرقت البهجة في داري وفي قلبي حين اجتليت النور من جبين ابني الأول، وسطعت الفرحة في روحي وفي روح زوجتي حين رفت علينا أول نسمات الطفل تملأ الحياة أملاً وسعادة ودفعتني فرحتي، فكتبت إلى أبي (. . . بالأمس أشرقت في داري

<<  <  ج:
ص:  >  >>