(. . . لم تعودني حياتي الماضية على أن أصارح أحداً، وأطلعه على مكنون نفسي. . فقد كنت أعيش في عالم غريب عني كل الغرابة، كريه إلى نفسي أشد الكره. . عالم لا تشغله إلا هموم المادة، ولا تدور في خلده إلا بواعث الجريمة. . فإذا تنكبت عن عادتي وجاءتك رسالتي محملة بعض أسراري فما ذلك إلا لأنك صديق روحي، ولأن إناء نفسي فاض على الجوانب. . ولم أستطع تحمل وطأة مشاعري المضمرة في صدر تتناهبه شتى الأعاصير!
وكثيراً ما كنت أخلو إلى نفسي، وأستعرض صور الحياة الماضية، وذكرياتها الدفينة فتلوح لي الحياة التي أحياها فصلاً من (رواية) ساخرة فقدت عنصر التشويق، وضاعت في ضمير الغيب نهايتها!. . لهذا فقد كنت ممتلئ النفس بالحقد، زائغ البصر عن الغاية، أدفع قدميَّ في طريق وعرة خالية من الصوى. . لقد كنت أحاول أن أجعل من روحي ينبوع نور في طريق حياتي المظلم، وكنت أحاول أن أرتفع من وحول الواقع إلى سماء فلسفة مثالية سامقة. . ولكن الظلمات استنزفت ينبوع نوري. . وأحسست بقوة قاسه كثيراً ما كنت تدفعني إلى. . الوحل!
وكنت. . وأنا في نشوة فلسفتي أحس بأن هناك بين أيدي البشر ملاهي تلهيهم عن مآسيهم، وتطلي وجه حياتهم البشع ببارق الألوان. . ولكن العقل المدرك لا تخدعه الأباطيل!
غير أنني أقر بأنني لم أستطع أن أبقى في قمتي الباردة، وأتطلع إلى وجه الحياة المرعب بعينين لا يداخلهما الخوف. . فالحب - مثلاً - تلك الملهاة المزمنة. أو ذلك الغاز الخانق. كثيراً ما كان يغريني ويشعرني بتفاهتي وأنا قابع في أحراش وحدتي. فرحت أتطلع إلى مشرقة في أفق قلبي بشوق شديد. . أرجوك أن لا ترمقني رمقات يربض في طياتها الاحتقار. فأنا رجل تعذب بأفكاره كثيراً. ولم أستطع أن أتحملها فجئت أبثها لك. . يا صديق روحي.
أصارحك بأن حياتي الماضية كانت خفقات جريحة، وأشواقاً مضطرمة، وتهاويم في عالم لا نهاية له من الآمال الكاذبة. لا تسخر!. فان هذا المخلوق العاق المضطرب، الذي أوردني موارد الشقاء، والمسمى (قلبي) كثيراً ما خفق، وكثيراً ما تعذب، ورقص كالمذبوح على أطلال حبه، وعلى أشواك إخفاقه!. لقد كانت الكلمة التي يتغنى بها قلبي وهو وحيد لا تنطق بها شفتاه وهو في حضرة معبودته!.