أنحن الذين نفكر بمصير الإنسانية، وتشغلنا عظائم الأمور لا نفكر إلا بعقولنا!. لا يا صديقي. فلم يكن رائدي أنا على الأقل في مجاهل الغيب، وأسرار الكون، وآفاق الإنسانية إلا قلبي. قلبي الذي تستعبده الأشواق الحائرة. إن قلبي كان دائماً دليلي وقائدي. أو قل كان جلادي! فالنور الذي كان يتدفق منه ينير حلكة حياتي. كان في الوقت ذاته يعشى ناظري فأظل والحيرة دائماً تلازمني كظلي!
وعندما نزلت إلى بيروت كان الشك في نفسي يعشعش، وكنت لا أثق في نفسي أية ثقة، ولا أطمئن إلى حياتي أي اطمئنان!
وفي بيروت صدمني الواقع أول صدمة، وامتلأت نفسي بالمرارة. .
سأروي لك القصة من أولها. . فعلى الرغم من مرارتها فأن شوقي كبير في أن أصارحك بها لتجد نتيجة فلسفتنا المحلقة في الأجواء العالية!
لقد بدت لي بيروت عالماً صاخباً لا يعرف الهدوء. أنا الرجل الراقد في أحضان السكينة في بغداد. . تلك المدينة التي مازالت تحتفظ بشيء من السحر القديم!.
وفضلت السكني مع عائلة فرنسية كريمة، وعائلة قوامها أب وأم. . وابنة في الرابعة عشرة من عمرها!. أوه. . يا صديقي لا تملأ فمك بابتسامة مثيرة!. فتاة في الرابعة عشرة من عمرها لا تثير في نفسي أية عاطفة. . وأنا في ذرى السابعة والعشرين أحمل على عاتقي أعباء فلسفة غامضة محلقة! لقد عاهدت نفسي على ألا أدخل في دهاليز الحب المظلمة ودروب العاطفة الملتوية. . لأن حياتي الماضية علمتني أن القلب إذا خفق وحده تسرب في خفقاته الذبول والاضمحلال! وفلسفتي القائمة التي يزخر بها فكري جعلتني بعيداً عن تلك الفتاة الصغيرة! فكنت أراها في الصباح فأحييها تحية جامدة لا روح فيها ولا طراوة. . وماذا تثير في نفسي هذه الفتاة؟. ثم ماذا خلف لي الماضي؟ الماضي المفعم بالكروب الممتلئ طريقه بالأشواك؟!. . ثم حياتي في بيروت تكلفي أعباء كثيرة، والنفس تجهد جهدهاً لتظفر بشيء من الراحة. ولكن لا راحة ولا اطمئنان!
وعندما كنت أرجع إلى بيتي، وقد تحطمت قواي. أجدها كالصورة الجميلة أو كالحديقة الغناء تحمل إلي الراحة، وأحس بالنسيم العبق يهب من جانبها!.