تلقى أحياناً وجهاً من الوجوه الجميلة فيجذب نظرك، ويستحوذ على فكرك، ويثير من جنبيك مكامن الإعجاب، فإذا غاب عنك ضاعت صورته من الخاطر، وتلاشت فتنته من القل، وتبخرت ظلاله من الذاكرة. وتقرأ أحياناً قصة من القصص الممتعة فيهزك منها طرافة الفكر، وتروعك سلامة العرض، وتبهرك وثبات الأداء؛ فإذا انتهيت منها لم تجد لها أثراً في نفسك، ولا صدى في ذاتك، ولا بقاء في ثنايا الشعور. وقل مثل ذلك عن قصيدة من الشعر، وعن لوحة من التصوير، وعن قطعة من الموسيقى، وعن طرفة بالغة الروعة من طرف الفن الجميل. . . وتسأل نفسك: هذا الوجه الفاتن الذي لقيته، وهذه القصة الممتعة التي تصفحها، وهذه القصيدة الفريدة التي قرأتها، وهذه اللوحة البديعة التي رأيتها، وهذه الموسيقى الرفيعة التي سمعتها؛ هذه الروائع كلها لماذا كانت بنت لحظتها في إثارة إعجابك، ووليدة وقتها في إلهاب إحساسك، وتوأم جوها الزمني في تحريك مشاعرك؟ ونروح تنتظر الجواب وقد يعييك أن تظفر به وأن تهتدي إليه، لأنك حائر بين أشباه ونظائر. . . فهناك في الكفة الأخرى من الميزان روائع أخرى لم تنطو بانطواء الزمن، ولم تنقض بانقضاء الأيام: هناك وجه جذاب لا ينسى، وهناك قصة فنية لا تنسى، وهناك قطعة موسيقية لا تنسى، وهناك لوحة وقصيدة. هناك أصداؤها التي تصافح العاطفة، وترفرف بين الجوانح، وترسب في أعماق الذهن، وتعانق عرائس الخيال.
وفي انتظار هذا الجواب تشعر أن (شيئاً ما) ينقص تلك الروائع الأولى، شيئاً ما يفقدها صفة البقاء في الكيان الشاعر. . . في نفسك. وقد تطول بك الحيرة وأنت تسعى وراء هذا الشيء تريد أن تضع عليه يدك، وأن تخضعه لمنطق العقل، ولسلطان الذوق، ولكل مقياس من المقاييس. وقد يكون مصدر الحيرة أنك تلمس في تلك الروائع فناً قد اكتملت عناصره، وتنوعت مذاهبه، وفاحت منه رائحة النضج وسطعت لوامع النبوغ، تلمس هذا كله ولكنك لا تزال تفتش عن هذا الشيء الناقص. . . الشيء الذي يشعرك فقده بأن بعض الوجوه ما هي إلا تماثيل باردة تنقصها الحرارة، وأن بعض القصص واللوحات ما هي إلا صور هامدة تنقصها الحركة، وأن بعض القصائد والقطع الموسيقية ما هي إلا أصداء تفتقر إلى