للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معاني الحياة

هذا الشيء ما هو؟ هو في كلمة واحدة: (الروح). . . الروح الذي يدفئ برودة التمثال، وينطق صمت الصورة، ويحيي موات الشعر والنغم.

والروح في الفن هو ذلك اللهب المتوهج الذي يحمل إليه الدفء من موقد الحياة وينقل إليه الضوء من مشعل النفس، وهو في هذه الدراسة الفنية آخر حاجز بين أداء في الشعر وأداء، بعد تلك الألوان المتقدمة من شتى الحواجز والفروق. وقد تجد في الشعر الأداء اللفظي شيئاً من الحرارة التي تشعها الألفاظ بين حين وحين، ولكنها حرارة (التكييف الصناعي) لامراء. . . وإذن فلا مناص من التفرقة بين حرارة ذهن ولفظ وحرارة نفس وحياة، أو بين حرارة شعر مصنوع وحرارة شعر مطبوع، أو بين حرارة أداء لفظي وحرارة أداء نفسي، ولا حاجة بك بعد هذا كله إلى أن تسأل نفسك: لماذا كانت بعض الأعمال الفنية بنت لحظتها في إثارة إعجابك، ووليدة وقتها في إلهاب إحساسك، وتوأم حدها الزمني في تحريك مشاعرك، ولماذا لم تنطو بعض الأعمال الفنية الأخرى بانطواء الزمن ولم تنقض بانقضاء الأيام!

بعد هذا تعال نستعرض هذه الأبيات التي قالها البحتري في وصف الربيع:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما

يفتقها برد الندى فكأنه ... يبث حديثاً كان قبل مكتما

فمن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما

ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجئ بأنفاس الأحبة نعما

ألا تحس معي أن هذه التهويمة الشعرية في رحاب الطبيعة هي تهويمة ذهن وليست تهويمة نفس؟ تحت لا ننكر أنه شعر يحفل بالجمل، ولكنه جمال من غير روح. ولا ننكر أيضاً أنه شعر ينبض بالحركة، ولكنها حركة ذلك (الإنسان الآلي) الذي لا حياة فيه. . . لو تجاوب البحتري مع الطبيعة ذلك التجاوب ألذ تحدثه الألفة والكلف والهيام والاستغراق، لما اقتصر على هذا الأداء اللفظي الذي خلا من الانفعال الذاتي الصارخ، ولقدم لنا أداء نفسياً يعج بالطاقة الحرارية الملتهبة!

<<  <  ج:
ص:  >  >>