إنه رجل يصف مجلي من مجالي الطبيعة والربيع في إبانه، ولكنه أشبه بذلك الظمآن الذي يصف لنا كوباً من الماء المثلج في قيظ الصيف، ثم يغفل عن تسجيل الانتفاضة النفسية التي يحدثها الري بعد انطفاء الظمأ وانتعاش الشعور. هو كما قلنا لك شعر جميل، ولكن أين جمال الوجه من (جمال الروح)؟ أنه شعر (السطوح الخارجية) لمشاهد الحياة!
أليس الشعر الصادق (عملية استقبال) تعقبها (عملية إرسال). هو كذلك على التحقيق. . . ولكننا نريد في هذه المحاولة المذهبية الجديدة في فهم الشعر أن تكون العلمية الأولى عملية استقبال حسية، وأن تكون العملية الثانية عملية إرسال نفسية. أي أننا يجب أن نتلقى المشهد المادي بكل أداة من أدوات الحس، ثم نذيعه بعد ذلك بكل لغة مناسبة من لغات النفس، وبخاصة في هذا اللون الأخير الذي قدمناه إليك تحت عنوان:(الصور الوصفية في إطارها الحسي)، ومنها هذه الأبيات التي قالها البحتري في وصف الربيع!
وتعال مرة أخرى لنستعرض (الجمال الطبيعي)، الجمال الذي تتنفس فيه الروح لا الجمال الذي تصنعه (الأصباغ والمساحيق). . .
إنه هنا في ذلك الشعر الذي يتجاوب مع الطبيعة بالنغم الراقص والشعور الخانق والخواطر الصادحة، ويهتف لها من خلال نشوة الخمر وروعة الغناء:
هيئي الكأس والوتر ... تلك (كومو) مدى النظر
واصدحي يا خواطري ... طويت شقة السفر
ودنت جنة المنى ... وحلا عندها المقر
قد بعثنا بها على ... موعد غير منتظر!
أرأيت إلى عملية الاستقبال في البيت الأول؟ إنها عملية استقبال بدأت بالحواس: حاسة تطلب الكأس، وحاسة تنشد الوتر، وحاسة تنعم النظر. . . وأعقبها عملية إرسال بدأت بالمشاعر: في البيت الثاني خواطر تصدح، وفي البيت الثالث جنة تدنو، وفي البيت الرابع بعث على غير ميعاد! وستعترضك عملية استقبال أخرى حسية في البيت السادس والسابع والثامن والتاسع عندما يقول: