ونود أن ترجع إلى الفصل السابق من فصول هذه الدراسة لتلاحظ الفوارق التعبيرية بين الاصطلاحات النقدية، حتى لا يقع في ظنك أن عملية الاستقبال بين الحواس التي تحصى ثم تسجل وبين الحواس التي تتلقى ثم ترسل فارق ملحوظ! وإليك عملية الإرسال النفسيةالثانية التي لا تختلف عن العملية الأولى لحظة من زمان.
وعبرنا رحابها ... فأشارت لمن عبر
هاكها قبلة فمن ... رام فليركب الخطر!
لقد استحال جبل (البرونات) هنا إلى غادة يعبر رحابها كل عاشق من عاشق الطبيعة، وهي لمسة من تلك اللمسات الشعورية التي تترجم في صدق عن لغة النفس، حين تندمج في المنظر المعروض على البصر بكل خلجة من خلجات الوجدان. ومن أبلغ طرق الدلالة على هذا الاندماج أن يتخطى الشاعر مرحلة الهيام من جانب واحد إلى مرحلة العشق المتبادل بين جانبين؛ المتبادل بين الطبيعة وبين هؤلاء السارين في مباهجها يدفعهم الشوق ويلهبهم بالحنين. الشاعر عاشق والطبيعة عاشقة. . . ولكنه هنا يقف على السفح وهي هناك تنتظره فوق القمم، تلوح له بقبلة من القبل المسكرة لتثيره وتغريه، بغية أن يصعد إلى شرفتها الأنيقة في أعالي الجبل شأن كل حبيبة تدعو المحب إلى ركوب الأخطار! وأي محب صادق لا يستهين بالصعاب ولا يهزأ بالأهوال؟ لقد أصاخ هو للنداء واستجاب للدعاء، وصعد مع الصاعدين إلى خدرها الخالد:
فسمونا لخدرها ... زمراً تلوها زمر
وحللنا بقمة ... دونها قمة الفكر!
هل خرجت من أبيات البحتري بشيء مما خرجت به من هذه الأبيات؟ لقد كان موقف البحتري أمام الطبيعة أشبه بموقف رجل أمام حسناء لا يشغله منها غير وصف مفاتنها الجسدية، أما أثر هذه المفاتن في نفسه ووقعها على شعوره فليس لهما في شعره مكان. . . لو تذوق البحتري طعم القبل من ثغر الطبيعة كما تذوقها هذا الشاعر المصري، لا ستطاع أن يزف إلى مشاعرنا ذلك الأداء النفسي الذي لا ينطلق إلا من قلوب المحبين: