إن الطبيعة في عدسة البحتري (كادت) أن تتكلم، أي كادت أن تأتي بحركة من الحركات الصوتية وهي الكلام، وهو فر رأينا تصوير لم يبلغ درجة (الفناء الشعوري) الذي يوهم الشاعر أن المرئيات قد انتقلت من مرحلة اللاأرادة إلى مرحلة الإرادة.
ولكن الطبيعة في عدسة الشاعر المصري قد خطت هذه الخطوة الهائلة حين أصبحت الحركة المرئية في حدود الواقع المحس الذي تعبر عنه كلمة (كان) لا كلمة (كاد أن يكون):
لا تقل أخصب الثرى ... فهنا أوراق الحجر!!
ها هنا يشعر الجما ... د ويوحي لمن شعر!!
الحجر هنا أوراق ولم يقل الشاعر (كاد) أن يورق، كما (كاد) الربيع هناك أن يتكلم. . . ترى لمَ لمْ يقل القرآن الكريم:(ورأى جداراً يكاد أن ينقض)؟ لأن الجدار قد بلغ من وهى الأساس وتداعى البناء وشدة القابلية للانهيار ذلك الحد الذي لا تصدق في وصفه كلمة (يكاد)، وإنما تصدق في وصفه كلمة أخرى تهيئ له (الحركة الإدارية) ليبلغ الأداء النفسي منتهاه، ومن هنا كان هذا التعبير القرآني الفذ:(ورأى جداراً يريد أن ينقض)!!
وتنتقل عملية الاستقبال الحسية الثالثة من مجالي الطبيعة المادية إلى مجال الطبيعة الحسية ممثلة في وجوه الحسان؛ تلك الوجوه الرانية رنو زهرة الصيف للمطر، المتوهجة بدم الشباب الذي لا تطفئ جذوته قطرات من الخفر، ذات السمات الأضحيانية والطرر الهلالية. . . وعندما ينتهي الشاعر من هذه الجولة البصرية الواصفة تبدأ على الأثر عملية الإرسال النفسية الثالثة، وياله من إرسال ذلك الذي يرتفع بالشعر إلى مثل هذا الأداء:
إنما تنظر السما ... ء إلى هذه الصور
لترى الله خالقاً ... مبدعاً معجز الأثر!
وفي غمار النشوة الجارفة بين أعياد الطبيعة وأعياد الشعور، لم ينس الشاعر تلك الأدبية الأمريكية التي صحبته في هذه الزيارة. . . لقد استهل بعالمه الغابر، وهي لفتة من لفتاته القومية الرائعة التي يزخر بها شعره، والتي سنفرد لها فصلاً خاصاً من فصول هذه الدراسة.