في رأيه - علاوة على ذلك - أن نصف في تدقيق شامل وفي تفصيل كامل تلك العمليات الطبيعية والكيميائية والفسيولوجية التي تختفي من وراء ذلك الاتساق الجمالي في حركاتنا وأفكارنا. وكان مقدرا لهذا العمل أن يكون مستحيلا لو لم تسمح لنا أساليب المعيشة في العصر الحديث من الملاحظة والتجريب، ولو لم تقدم لنا المعونة من اجل تحقيق هذه الرغبة الهائلة. فبفضل المنشئات العلمية التي تعني بالنواحي المختلفة من الإنسان استطاع الدكتور كاريل أن يمد التفاته وأن يرعى بنفسه مجالات الحيوية الكثيرة لدى الأفراد.
وليس لكتابة هذا من غرض كما يقول هو نفسه إلا أن يجعل تحت أيدي الناس مجموعة من النتائج العلمية والحقائق الخاصة بالكائن البشري الذي يحيا في هذه الفترة بالذات. فعلى هذا النحو يمكننا أن نلمس جوانب الضعف في مدينتنا ونحس بما بدأ يظهر عليها من أعراض التهالك والانهيار. فإذا صح أن هناك طائفة معينة نخصها بهذا الكتاب الذي بين أيدينا فأظنها تلك الطائفة التي آثرت الهروب من حياتنا الاجتماعية والإفلات من أسر عادلتنا الحديثة وقيودنا المصطنعة. والكسيس كاريل نفسه واحدا من هؤلاء؛ إذ آثر في آخر أيامه أن يعتزل في جزيرة سانت جيلدا حيث أمضى بقيه عمره.
ولما تأمل كاريل حياة المجتمع الحديث أحس بأننا قد شغلتنا المسائل الشكلية عن أمور جوهرية في غاية الأهمية بالنسبة إلى الإنسان في معاشه وتصرفه ووجوده. ولعل حياتنا اليوم قد غدت أكثر صعوبة وتعقيدا وأشد اضطرابا وأدهى للتفكير في أمر موقفنا منه بعد كل هذه التغيرات. وإذا كان للعلم في حد ذاته قيمة ما، فذلك لأنه يؤثر في كياننا بأجمعه ويجعلنا نرتد إلى أنفسنا ونناقش أفعالنا ونجدد أخلاقنا. أما أن يكون العلم مدعاة للانشغال عن الإنسان بهذه الأشياء العارضة في حياتنا، وبهذه المظاهر التي تنأى بنا عن الذوق والخير والصحة، فذلك أكبر دليل على أننا لم نحتط للثورة التي أحدثناها بايدينا، ولم نعد العدة من أجل أن نوجد مثالا حيويا يحقق آمال الإنسان وأمانيه قبل أن يرضي مطامعه وشهواته.
ومن هنا حاول كاريل أن يؤكد ظاهرة التكيف وأن يضعها في المرتبة الأولى من مظاهر الحيوية الإنسانية. وذلك طبيعي بالنسبة إلى عقليته التي ترى ضرورة المواءمة بين علوم العصر الحاضر وبين حياة الإنسان في المجتمع. فالعلم الذي لا يفيد في أستناد الإنسان إليه