القصص (توثقت بأشخاصها صلاته وتصعدت في زفراتهم زفراته، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايته) وفي ترجمة لون خاص من القصص يرضي في نفسه تلك النزعة الملحة إلى الاكتئاب والانقباض والحزن!
وكان الجمهور القارئ من الشباب في تلك الفترة - أعني الجمهور الذي يقتصر على القراء ولا ينتج - كان لا يستهويه شيء بقدر ما تستهويه تلك القصص التي تحفل بكل لون من ألوان المأساة وتتصل بكل سبب من أسباب الفاجعة. وقد وجد الجمهور القارئ عند الجمهور الكاتب بغيته المثلى وزاده المنشود، فأقبل في شغف بالغ ونهم لا يحد، على (آلام فرتر) و (رفائيل) للزيات، وعلى (بول وفرجيني) و (ماجدولين) للمنفلوطي. . . وعلى كل إنتاج أدبي من هذا الطراز!!
وإذا أردت أن تبحث عن مقومات هذا المزاج المنقبض عند الشباب في الربع الأول من القرن العشرين فارجع إلى البيئة المادية والمعنوية فهي المسؤولة عن هذا المزاج. . . لقد كانت بيئة الشباب في محيط الأسرة والمدرسة والمجتمع تنبعث على الانطواء وتدعو إلى التكبيل بكل قيد من القيود؛ فالتقاليد الموروثة تفرض فرضاً على الشباب بما فيها من نظم عتيقة وأساليب صارمة، وكلعبث بهذه التقاليد عبث بقواعد الشريعة والعرف والآداب والأذواق حتى إذا خطر للشباب شيء من التجديد في وسائل العيش ومظاهر الزي وطرائق التفكير، كان ذلك في رأي القائمين على أمرهم خروجا على النظام وثورة على الاحتشام، واندفاعاً إلى هاوية الغي والفساد وانحرافاً عن معاني الفضيلة ومناهج الأخلاق!!. . . وإلى هذه البيئة يشير الزيات في مقاله من لصفحة الرابعة والأربعين من المجلد الأول لكتاب (وحي الرسالة) عندما يقول: (وأنا في سنة ١٩١٩ كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك). .
وكانت بيئة انعدم فيها الاتصال الكامل بين الرجل والمرأة، حين وقفت التقاليد الموروثة وبقايا الحجاب الصفيق سداً هائلاً وجداراً منيعاً بين الشباب من الجنسين. . . وحرمان البيئة من المرأة وهي بهجة الحياة الكبرى ونبعها الدافق باللذة والجمال والحب، كان له أبعد